بين الماضي والحاضر والمستقبل
بين الماضي والحاضر والمستقبل
إن ماضينا وما فيه من تقلُّبات ودورات يُشير أن الحضارة الإسلامية مرَّت بطوري النشأة والنهضة ببعث من الفكرة الدينية التي أُخذَت وقتها من نبعها الصافي عن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وتفاعلت مع فطرة الرجل البدوي، فجعلت منه إنسانًا حضاريًّا، ثم تحوَّلت إلى المُلك العضوض بعد معركة صفِّين في السنة الثامنة والثلاثين من الهجرة، وبعدها دخلت في طور العقل وتقديمه على الروح، فزادت مظاهر التنعُّم وتراجع تأثير الفكرة الدينية في النفوس، فتكالبت الأمم الأخرى علينا بالغزو تارةً والاستعمار تارات أخرى.
لذلك يؤكِّد المؤلف فاعلية الفكرة الدينية في أي زمان ومكان في بعث الحشؤضارة من جديد، فعلى الرغم من الواقع الاستعماري الذي عشناه، وما في النفوس من قابلية له، فقد نشأت في بلادنا حركات لمناهضته وتجديد الفكر الإسلامي، وإزالة البدع عنه، فظهر من لعبوا أدوارًا بطولية في ظل هذا الواقع من أمثال: الأمير عبد الكريم الخطابي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده.
وإذا كان الأول قد أشهر السيف للجهاد والتحرُّر من الاستعمار، فإن الأخيرين قد جعلا من الكلمة جهادًا، وقوسًا موجهًا صوب تغيير ما في النفوس، ليتغيَّر معها ما في الواقع، فظهرت الفكرة الإصلاحية وانتقلت بين أرجاء العالم الإسلامي على أيديهما، وأخذت الشعوب في التحرُّك من سباتها.
ويرى مالك أن هذه الحركات الإصلاحية انطلقت في جوهرها من مقولة: إن تكوين الحضارة إنما يكون بتهيئة نفس الظروف والشروط التي وُلِدَت فيها الحضارة الأولى، صادرًا عن عقيدة قوية، وخطاب يستمد من القرآن أسسه الواضحة، لكن هذه الأفكار قد انتكست وقتها بفعل ركون البعض إلى الوثنية مرة أخرى! فرضوا بصناديق الانتخاب لتقرير مصيرهم لا إلى النضال المستمر ضد المستعمر! فتحرَّكت الفكرة الإصلاحية نحو السراب السياسي، فقبلت بقواعد اللعبة السياسية التي وضعها الاستعمار دون أن تغيِّر في شروطها وطرائقها بإحداث التغيير الملائم في المحيط والوسط الاجتماعي الذي تُمارس فيه عملية السياسة والحكم، فالحكومة ما هي إلا آلة اجتماعية تتغيَّر تبعًا لتغير الوسط الذي تعيش فيه، وتقدم خطابها وتنوع وسائلها على هذا الأساس، فإذا كان المحيط استعماريًّا فلا بدَّ لهذه الحكومة أن تكون حكومة استعمارية.
الفكرة من كتاب شروط النهضة
في هذا الكتاب نجد صلة جليَّة بين الماضي والحاضر والمستقبل في تناول الكاتب لكل قضية من القضايا المطروحة، فنجد اتصالًا بين الواقع المُشاهد وما ينبغي أن يؤول إليه، إذ يعدُّ الكتاب أحد أهم الكتب الفكرية التي تعالج قضايا الحضارة والثقافة في العالم الإسلامي.
ويكتسب أهمية خاصة لكونه يلخِّص أفكار مالك بن نبي وهدف مشروعه الفكري الضخم، الذي عبَّر عنه في الكثير من المؤلفات الأخرى، وليس معنى ذلك الاكتفاء بقراءة هذا الكتاب دون الكتب الأخرى، ولكن فيه إشارة إلى أهمية هذا المؤلف كمدخل لقراءة منظومة فكر مالك بن نبي وفهم مقاصده مع ضرورة التطرُّق إلى المؤلفات الأخرى للتعمُّق في جوانب مشروعه الفكري.
مؤلف كتاب شروط النهضة
مالك بن نبي: كاتب ومفكر إسلامي، يعد أحد أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث، وُلِد في الجزائر في 28 يناير 1905، وتخرَّج في كلية الهندسة.
وله العديد من المؤلفات منها: “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”، و”الظاهرة القرآنية”، و”مشكلة الثقافة”، و”وجهة العالم الإسلامي”، و”الصراع الفكري في البلاد المستعمرة”، و”ميلاد مجتمع”.