بين الاستعمار والقابلية للاستعمار
بين الاستعمار والقابلية للاستعمار
إن الأخطر من الاستعمار هو القابلية له، فتكون النفس مُهيَّئة لقَبول ذلِّه، فتُمكِّن له في أرضها، ولا شك أن المستعمر بذل جهدًا لتتملَّك هذه الحالة من الشعوب المُستعمَرة، فاستغل الشعور الذي لدى هؤلاء بالنقص فحطَّ من قيمتهم، وجعلهم نموذجًا للكائن المغلوب على أمره، وساعد على عزلة هذه الشعوب عن العلم والتقدم؛ فحرم أبناءها من التعليم، وأشاع البطالة بين شبابه، وجعل نفسه فقط مصدر التعليم والعمل ليتودَّد إليه الجميع للعمل في خدمة استعماره لبلادهم، فشاع في النفس استصغارًا لقدرتها وتعظيمًا لقدرة المستعمِر وجهنمية تفكيره، وتقدُّمه المُذهل؛ كل هذا وجد وأوجد في نفوس الكثيرين قابلية للاستعمار، فجعله يحطُّ من كرامته بنفسه؛ فتركت العوامل التقليلية التي عمل المستعمِر على غرسها في نفوس المُستعمَرين أبعد الأثر.
على عكس ما أثبتته خبرة الشعوب الإسلامية التاريخية من فشل في التعامل مع الاستعمار، جاءت خبرة اليهود في العالم بصفة عامة وفي الجزائر بصفة خاصة، فجعلوا من التضييق عليهم والاضطهاد الذي مورس ضدهم فرصة لتثبيت واستغلال الوضع الدولي لصالحهم بأن انتزعوا اعترافه بحقِّهم في وطن قومي لهم، وتعزيز صلتهم الاجتماعية في الأقاليم المختلفة من العالم؛ فكوَّنوا مدارس سرية يُدرس فيها متطوِّعون منهم لأبنائهم، ونشَّطوا حركة التجارة بينهم.
لقد انطلق اليهود من عكس ما انطلق منه المسلمون بأن حيَّدوا تأثير المستعمر في نفوسهم، فأدَّى قيامهم بواجباتهم كلٍّ تجاه الآخر لكسب حقوقهم استنادًا إلى مبدأ الجميع للفرد والفرد للجميع، بعكس المسلمين الذين انطلقوا من مبدأ الحقوق تؤخذ ولا تُعطى.
إن القاعدة الجوهرية الذي أراد أن يؤكِّدها الكتاب هنا أن عليك أن تغير نفسك لتغيير التاريخ، فمجرد المطالبة بالحقوق وحدها لا تكفي لحصولك عليها، كما لا يضمن حسن تصرُّفك فيها، بل عليك أن تؤهل نفسك أولًا للحصول عليها باستحضار شروطها في نفسك وفي سلوكك كفرد في مجتمع، فتؤدي ما عليك من واجبات تجاه نفسك والآخرين.
وأول هذه الشروط البعث الفكري والروحي، الذي يأتي مع نشر الثقافة للمجتمع، واستعادة شروط الحضارة، والقضاء على جهل المتعالمين، أولئك الذين يلبسون الجهل ثوب العلم، فنعيد بذلك الوضع إلى طبيعته بأن نتحرَّك على أرجلنا لا رأسنا وأيدينا.
الفكرة من كتاب شروط النهضة
في هذا الكتاب نجد صلة جليَّة بين الماضي والحاضر والمستقبل في تناول الكاتب لكل قضية من القضايا المطروحة، فنجد اتصالًا بين الواقع المُشاهد وما ينبغي أن يؤول إليه، إذ يعدُّ الكتاب أحد أهم الكتب الفكرية التي تعالج قضايا الحضارة والثقافة في العالم الإسلامي.
ويكتسب أهمية خاصة لكونه يلخِّص أفكار مالك بن نبي وهدف مشروعه الفكري الضخم، الذي عبَّر عنه في الكثير من المؤلفات الأخرى، وليس معنى ذلك الاكتفاء بقراءة هذا الكتاب دون الكتب الأخرى، ولكن فيه إشارة إلى أهمية هذا المؤلف كمدخل لقراءة منظومة فكر مالك بن نبي وفهم مقاصده مع ضرورة التطرُّق إلى المؤلفات الأخرى للتعمُّق في جوانب مشروعه الفكري.
مؤلف كتاب شروط النهضة
مالك بن نبي: كاتب ومفكر إسلامي، يعد أحد أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث، وُلِد في الجزائر في 28 يناير 1905، وتخرَّج في كلية الهندسة.
وله العديد من المؤلفات منها: “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”، و”الظاهرة القرآنية”، و”مشكلة الثقافة”، و”وجهة العالم الإسلامي”، و”الصراع الفكري في البلاد المستعمرة”، و”ميلاد مجتمع”.