بؤس التصورات الدهرانية لعلاقة الإنسان بالإله
بؤس التصورات الدهرانية لعلاقة الإنسان بالإله
يرى الكاتب أن تلك التصورات الفاسدة تتخذ أربع صور؛ الأولى “بؤس التصوُّر الخارجي لعلاقة الإنسان بالإله”، حيث يعتقد الدهرانيون أن علاقة الإنسان بالإله هي علاقة ذات خارجية بالذات الإنسانية، وهي علاقة قهر وتسلُّط، ونحن لا نسلم لهم بذلك، لأن مقولتي (الخارج والداخل) مكانيتان، والإله منزَّه عنهما، فالوصف اللائق ليس الخارجية، بل (المعية)؛ كما أن العلاقة ليست علاقة تسلُّط وقهر، بل علاقة (رحمة)، فالإنسان يملك حرية الخضوع لأوامر ونواهي الإله، كما يملك عدم الخضوع.
والثانية “بؤس التصوُّر التجزيئي لعلاقة الإنسان بالإله”، حيث يأخذ الدهرانيون بعض الصفات الإلهية دون بعض، كقولهم إن الإله لا يتولى إلا الثواب والعقاب في الآخرة، كما أن الصفات التي يثبتونها للإله كالخالق، يجعلون الإنسان شريكًا له فيها، فلا يكون الإله خالقًا لكل شيء؛ وهذا يضيق الأفق القيمي للإنسان، كما أنه لا يقوم على تنزيه وتوقير الذات الإلهية، كما أنهم يقومون بتجزئة الكتب المنزلة فيأخذون منها بعض القيم، ويطرحون ما جاءت به من قوانين وأحكام شرعية، والثالثة (بؤس التصور التسيُّدي لعلاقة الإنسان بالإله)، حيث ينازع الدهرانيون الإله في ربوبيته وتدبيره، فيرون الإنسان سيدًا مطلقًا ينزل منزلة الرب، كما يرونه سيدًا على الطبيعة، وهذا التصور التسيدي يقطع طريق التقرب إلى الإله، فلا شيء يقطع طريق التقرب إليه مثلما تقطعه منازعته في ملكه وسلطانه.
أما الصورة الرابعة فهي “بؤس التصور التجسيدي لعلاقة الإنسان بالإله”، الناتج عن مشاركة الإنسان للإله في الرتبة الوجودية، كمحاولة لتأليه الإنسان وأنسنة الإله، وهذا التقلب بين وضع الإنسان ووضع الإله الذي تشبع به الفكر الغربي حتى صار جزءًا من نسيجه العقلي، ونتيجة للتأثر بالثقافة اليونانية التي تُرى في تعدُّد الآلهة عين المعقولية، فلم يترك هذا التصوُّر التجسيدي أي مجال لتنزيه الإله في تلك العقول، فالأخلاق الدهرية -على الجملة- لا تلبث أن تصرف الإنسان عن التعبد للإله الآمر، حتى توقعه في شِراك تعبده لذاته وسلطانه القاهر.
الفكرة من كتاب بؤس الدهرانية.. النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين
قامت الحداثة منذ نشأتها على “فصل المتصل”، ونصطلح على أن نسميه (الدنيانية)، ومن صورها، (العَلمانية) وهدفها فصل السياسة عن الدين، و(العِلموية) وهدفها فصل العِلم عن الدين، و(الدهرانية) وهدفها فصل الأخلاق عن الدين، وكذا فصلت الدنيانية الفن والقانون وكل شيء عن الدين، وهدف هذا الفصل (الدنياني) صرف الدين عن تنظيم مجالات الحياة، وأبلغ تلك الفصول أثرًا وأشدها خطرًا هو (فصل الأخلاق عن الدين)، لتعلُّق الأخلاق بالإيمان، فضلًا عن صلة الإيمان بالدين.
وقد وضع الدهرانيون أربع صيغ للفصل بين الأخلاق والدين، يريدون من خلالها أن يجرِّدوا الأخلاق من لباسها الروحي، حتى يلبسوها لباسًا زمنيًّا دنيانيًّا بلا روح؛ فدعوى فصل الأخلاق عن الدين، دعوى باطلة، حيث تبطل تصوُّرات الدهرانيين عن الأخلاق والدين، حيث لا أخلاق بلا دين، كما لا روحانيات من خارج الدين، ومن ثمَّ لا بد من وصل ما فصله الدهرانيون، حتى نعيد إلى الأخلاق لبسها الروحي من جديد.
مؤلف كتاب بؤس الدهرانية.. النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين
طه عبد الرحمن: كاتب متخصِّص في علم المنطق وفلسفة اللغة والأخلاق، أحد أبرز الفلاسفة والمفكرين منذ سبعينيات القرن الماضي، كتب العديد من الكتب التي يؤسِّس من خلالها فلسفة إسلامية جديدة، ومن تلك الكتب: “العمل الديني وتجديد العقل”، و”روح الحداثة”، و”سؤال الأخلاق”، و”سؤال العنف”، و”ثغور المرابطة”، و”ما بعد الدهرانية”.