الوسطية في فكر دراز
الوسطية في فكر دراز
عبَّر دراز عن وسطية الإسلام في غير مستوى، فمن ذلك التدرُّج الحكيم في التشريع حتى انتهى إلى الكمال التشريعي والأخلاقي، ومن أبرز الأمثلة على ذلك: تحريم الخمر حيث بدأ بإخراجه عن نطاق الرزق الحسن (في سورة النحل)، ثم بيان ما فيه من الإثم دون التصريح بالتحريم، ثم التحريم المؤقت وقت الصلاة، ثم التحريم القاطع كل وقت، وفي كل مرحلة يتم تهيئة الاستعداد النفسي لقبول الأمر وكأن القرآن أراد أن العلاج بتربية الضمير يفوق قوة القانون بنسبة ٧٥٪، وليس يقتصر التدرُّج في جزئيات الشريعة وحدها، بل إن المرحلة المكية كلها كانت بمنزلة إعداد نفسي وروحي لقبول مرحلة التشريع المدنية، ومن محاسن الشريعة نهيها عن الإفراط الذي يُفضي إلى التفريط وحثه على القليل الدائم الذي يظل به الضميرُ حيًّا والقلب نشطًا ومسرورًا.
أرهقت مسألة الجبر والاختيار العقولَ قديمًا وحديثًا، وأي ديانة سماوية تعلِّم الإنسان المسؤولية وتستحثه لاستكمال فطرته وتطهير أخلاقه وهو ما يستلزم الحرية وإمكان الاختيار لأن القهر على فعل شيء يُفقده صفته الأخلاقية، وفي الوقت نفسه تُؤكد إحاطة الله بكل شيء قدرة وعلمًا؛ فكيف يمكن التوفيق بين الموقفين؟ ولم يكن يمثل ذلك أي مشكلة في القرن الأول الإسلامي، بل منعوا الكلام فيه؛ إذ لا فائدة من الجدل ما دام كل إنسان مسؤولًا عن أفعاله، ولكن ظهرت في القرن الثاني فرقتان متضادتان؛ إحداهما أنكرت تدخُّل الخالق تمامًا والأخرى سلبت من الإنسان إرادته، وهو وليد جدل آخر حول صفتي القدرة والعدل الإلهيين، فكل طائفة أكدت صفة وأهملت الأخرى، وتصدَّر الأشاعرة للرد عليهم فقالوا باشتراك الإرادتين، ولكنهم وقعوا في شطط مقابل حين قال بعضهم بجواز التكليف بالمحال، ذلك لأنهم فرطوا في تبني الحل القرآني لهذه المعضلة الفلسفية، فالقرآن يجمع بين معاني الجبر والاختيار والعدل والقدرة في السياق ذاته ولا يقسمها أبعاضًا متضادة، فالآيات تؤكد قدرة الله وعدله كذلك، وتثبت مشيئته المطلقة وتثبت للإنسان إرادة أيضًا، وخلاصة القول القرآني إن للإنسان إرادة حرة ولكن القدر يتدخَّل تثبيتًا لمن اختار الحق وتخذيلًا لمن آثر الباطل، وهو نوع من الجزاء الدنيوي المعجل.
الفكرة من كتاب فيلسوف القرآن الكريم محمد عبد الله دراز: حياته وآثاره
عندما نتحدَّث عن الشيخ محمد عبد الله دراز فإننا نتكلم عن عَلَمٍ من أعلام المجددين المعاصرين، وعقلٍ من خيرة العقول المسلمة في القرن العشرين الذين لم ينالوا من الشهرة والانتشار ما يوازي مكانتهم العلمية والفكرية رغم أن أفكاره وكتبه لم تأتِ إلا بالطريف والجديد، وابتدع منهجية لم يسبقه إليها أحد من قبل في قضيتي مصدرية القرآن الكريم وعلم الأخلاق القرآنية، والمثير في حياة الشيخ دراز أنه من أولئك الذين درسوا في الغرب سنوات طويلة، فما رجع كغيره ناقمًا على الشرق وتراثه أو ظل متصلبًا على أفكاره فلم يستفد من علوم الغرب شيئًا، بل هضم علوم الغرب ووعاها أصولًا وفروعًا، ثم نقدها بقوة في عقر دارها مستمدًّا العون من ثقافته الشرعية الواسعة وعلمه الغزير الناصع؛ فأثار إعجاب الغربيين قبل أن يسمع به أبناء جلدته!
مؤلف كتاب فيلسوف القرآن الكريم محمد عبد الله دراز: حياته وآثاره
محمد بن المختار الشنقيطي: باحث أكاديمي وناشط سياسي ومؤلف موريتاني، وُلد سنة ١٩٦٦، يعمل أستاذًا مشاركًا في الأخلاقيات السياسية وتاريخ الأديان في جامعة حمد بن خليفة، وحصل على درجات علمية في الفقه والترجمة وإدارة الأعمال، وله إسهامات عن الربيع العربي والحضارة الإسلامية والحداثة الإسلامية، وتُرجمت مؤلفاته ودراساته إلى عدد من اللغات من بينها التركية والألبانية والفارسية.
من مؤلفاته:
– الخلافات السياسية بين الصحابة.
– البحث عن دين الفطرة.
– خيرة العقول المسلمة في القرن العشرين.