الهوية واللغة
الهوية واللغة
لنفهم خطورة الحرب على العربية علينا أن نفهم علاقة الهوية باللغة عمومًا؛ فاللغة ليست فقط وسيلة لتجسيد الأفكار وللتواصل، إذ يمكن أن يتم هذا بوسائل تعبيرية متعددة عند شتى الكائنات الحية وليس عند البشر وحدهم، ويمكن للإنسان أن يمارس حياته في غياب اللغة بشكل مؤقت أو دائم، مثل الطفل في شهوره الأولى في مرحلة (ما قبل اللغة)، ومثل من يحرم نعمة النطق من البشر في حياةٍ (خارج اللغة)، والجاحظ في كتابه “البيان والتبيين” وضح خمسًا من وسائل التعبير عن المعاني، منها اثنتان لغويتان هما اللفظ والخط وثلاث غير لغوية.
ما الذي يميز اللغة إذًا؟ إنها هبة منَّ الله بها على الإنسان وميَّزه بها عن سائر الكائنات، وجاء ذكر نعمة البيان بعد نعمة الخلق في قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾. والطفل يتلقَّى “اللغة الأم” بفطرته ويتعلَّمها مثلما يتعلم الأكل والمشي، فتصبح جزءًا أصيلًا في صاحبها وتحفظ له المشاعر الأولى والأفكار والأولى، وتُشكِّل ذاكرته طويلة الأمد التي ستضم المعارف والعلوم الأساسية بالنسبة له، لذا تُعدُّ اللغة الأم أساسًا مهمًّا في تشكيل هويَّته، وإن زاحمتها اللغات الأخرى فإنها تظلُّ الأقرب إلى صاحبها؛ وتحضر في اللحظات الحميمية وفي لحظات الغفلة عن التصنُّع، حتى إن علماء النفس وخبراء التجسُّس استغلوها في كشف الجواسيس في الحروب.
واللغة تمنح كل فردٍ الانتماء إلى جماعة لها نفس اللغة بدءًا من العائلة إلى الجماعات الأكبر في القرية أو الولاية أو الدولة أو غيرها، وللجماعات الأصغر هويات صغيرة تمثلها اللهجات التي تمتزج كلها وتجتمع في هوية واحدة كبيرةٍ هي اللغة المكتوبة وما تضمُّه من ثقافات، وأحيانًا تتسع الهوية اللغوية لتضمَّ أبناء لغات أخرى قد ضعفت، في حواراتٍ ومنافساتٍ حضارية بين اللغات.
الفكرة من كتاب إنقاذ اللغة إنقاذ الهوية
اللغة العربية لغة عريقة، وهي من أطول اللغات عمرًا وأكثرها انتشارًا، وقد نالَت شرفًا كبيرًا حين نزل بها القرآن الكريم؛ ولم يعد الحفاظ عليها مرتبطًا بإرث لغوي فقط، وإنما بحفظ الوعاء الذي يحمل رسالة الإسلام. وقد مرت العربية عبر التاريخ بمراحل انتشار وازدهار استوعبت فيها عطاء اللغات والحضارات الأخرى، وبمراحل انحسار وذبول، والحرب التي نشهدها اليوم على لغتنا هي فصل من حكاية طويلة شهِد القرنان الماضيان على كثيرٍ من فصولها التي كتبها الاستعمار ليوهمنا أن التقدم لا يكون إلا بالقطيعة مع التراث، ذلك لأن الشعوب تُستعبد حين يُسلَب منها لسانها؛ وانطلاقًا من ذلك يتناول الكتاب مشكلة اللغة العربية التي هي مشكلة الهوية العربية من جوانب متعددة محاولًا رسم أُطُرٍ للحل.
مؤلف كتاب إنقاذ اللغة إنقاذ الهوية
الدكتور أحمد درويش: شاعر وناقد مصري، حصل على ليسانس في اللغة العربية وآدابها والدراسات الإسلامية، بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى وترتيبه الأول على الخريجين بكلية دار العلوم جامعة القاهرة عام 1967، ثم نال درجة الماجستير في الدراسات البلاغية والنقدية بتقدير ممتاز من نفس الجامعة عام 1972، ثم حصل على دكتوراه الدولة في الآداب والعلوم الإنسانية: تخصُّص نقد أدبي وأدب مقارن من جامعة السوربون في باريس عام 1982.
وهو عضو خبير في “مجمع اللغة العربية” بالقاهرة، وقد درَّس وحاضر في عدد من الجامعات والمعاهد، وفاز بجوائز عديدة من أهمها جائزة الدولة التقديرية للآداب من المجلس الأعلى للثقافة عام 2008.
له مؤلفات كثيرة، منها: “ثقافتنا في عصر العولمة”، و”خليل مطران شاعر الذات والوجدان”، و”في صحبة الأميرين أبي فراس الحمداني وعبد القادر الجزائري”، و”الاستشراق الفرنسي والأدب العربي”، و”نظرية الأدب المقارن وتجلياتها في الأدب العربي”، وديوان “أفئدة الطير”.