الهمجية وتدمير الثقافة
الهمجية وتدمير الثقافة
تُعد الهمجية لاحقة على الثقافة وليست سابقة لها، فهي تقع في نهاية الفصل الأخير من تدمير الثقافة، والثقافة يُقصد بها ثقافة الحياة، وهي كل فعل تمارسه الحياة على نفسها، وتُشير إلى التحوّل الذاتي للحياة، والمقصود بالحياة هنا الحياة التي لا تختلط مع موضوع المعرفة العلمية، تلك المعرفة المقصورة على من يمتلكونها من العلماء، ومن ثمَّ فإن الحياة ليست الجزيئات أو الجسيمات التي يسعى العالِم إلى الوصول إليها بمجهره، بل الحياة كل ما يعرفه جميع الناس على وجه الأرض، فهي تخبر وتحس بنفسها، وفعل الإحساس بالنفس هو ما يجعل منها بالتحديد “الحياة”، وهي ليست الحياة البيولوجية، إنما الحياة الحية التي يتألف قوام ماهيتها من الإحساس بالنفس والإخبار بها، ومن ثمَّ فإن كل من يحمل في نفسه الخاصية العجيبة الممثلة في “الإحساس بالنفس” هو كائن حي، بينما كل من يفتقر إلى الإحساس بالنفس يكون ميتًا، ومن ثمَّ نصفُهُ بالـ”شيء” كالأحجار والكواكب التي لا تخبر ولا تحس نفسها.
إن “المعرفة العلمية” التي تعتمدها الهمجية هي معرفة ذات طبيعة موضوعية تتعدى الذاتية والفردية، إذ تتمثل في كونها صحيحة ومعترفًا بها من الجميع، بينما “العلوم الإنسانية” كعلوم الفن والدين والاجتماع وغيرها لا تتمتع بأي استقلالية ولا تشكِّل ندًّا للعلوم الطبيعية، ومن ثمَّ مكتوب عليها ترك مكانها للمعرفة العلمية، فالعلم الحديث يريد أن يختزل كينونة الأشياء إلى الطرائق الهندسية الرياضية، رغم أنها مثالية لا وجود لها إلا في الوعي، فلا وجود لعدد أو حساب ولا لجمع أو طرح، كونها معاني مثالية منبتها الوعي الذي يخلقها، إن هذا الوعي هو ما يجعل الذاتية ممكنة بما هي ذاتية وبما هي حياة، وبناءً على ذلك، فإن الاعتقاد بأن العلم هو المعرفة المطلقة تكريس لمعرفة أحادية عن العالم الفعلي والحياة، وهذا ما ينفيه مثال بسيط كالمنزل، فهو لا يوجد من دوننا أو خارجًا عنّا، بل موجود بناءً على نشاط معقد من الإدراك الحسي، فنحن حين ندرك إحدى واجهات المنزل نستطيع أن ندرك الواجهات الأخرى غير المدركة بعد.
وبناءً على ذلك إذا كانت الثقافة عملًا من أعمال الحياة وتعمل على تطورها ونموها، والعلم لا يرتبط بها كونه يتطور خارج إطارها، فإن تطور العلم لا صلة له بالثقافة، ومن ثمَّ فإننا أمام همجية، هي همجية العلم الذي يتوعَّد الإنسان بالموت، لأنه انحطاط لأنماط تحقيق الحياة وإبطال لنموها.
الفكرة من كتاب الهمجية.. زمن علم بلا ثقافة
يُبين المؤلف في هذا الكتاب أنه لأول مرة في التاريخ يحدث انفصال بين العلم والثقافة إلى حد الصراع في ما بينهما في معركة وجودية حتى الموت، فنحن نشهد في عصرنا الحالي انفجارًا علميًّا يقابله انهيار وتدمير للإنسان، كما نشهد تطورًا علميًّا يسير جنبًا إلى جنب مع تداعي الثقافة وأفولها، كأن انتصار العلم هو اندثار للثقافة. ومن ثمَّ يُنادي المؤلف في طول الكتاب وعرضه بفصل العِلم عن الأيديولوجيا المرافقة والمفسرة له، وهي الأيديولوجيا المادية الهمجية التي تختزل الكون في مجموعة موضوعية من الظواهر المادية، وتقتصر في تفسير الحياة على الطرائق الرياضية الفيزيائية.
مؤلف كتاب الهمجية.. زمن علم بلا ثقافة
ميشيل هنري : هو فيلسوف وروائي فرنسي، كما أنه كاتب ومفكر، وأحد روّاد علم الظواهر (الفينومينولوجيا)، وعلوم الاجتماع والسياسة والفن، وكان يعمل أستاذًا في جامعة (بول فاليري مونبلييه) في فرنسا، كما عمل بالتدريس في جامعات فرنسية وأجنبية عديدة، من مؤلفاته:
I Am the Truth: Toward a Philosophy of Christianity.
Seeing the Invisible: On Kandinsky.
Words of Christ.
Material Phenomenology (Perspectives in Continental Philosophy).
معلومات عن المترجم:
جلال بدلة: مترجم وأكاديمي سوري من مواليد دمشق عام 1977، حاصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة المعاصرة من جامعة بوردو الثالثة، من ترجماته:
فلسفة العنف.
الهمجية.
الإسلام والجمهورية والعالم.
الهوية والوجود: العقلانية التنويرية والموروث الديني.