الهروب من المأزق والتماهي بالمتسلط
الهروب من المأزق والتماهي بالمتسلط
التماهي بالمتسلط يشكل أحد المظاهر البارزة في سعي الإنسان المقهور إلى حل مأزقه الوجودي والتخفُّف من انعدام الشعور بالأمن والتبخيس الذاتي الذي يلحق به من جراء وضعية الرضوخ، إذ إنه كحل عبارة عن هروب من الذات وتنكر لها، وهروب من الجماعة وتنكر للانتماء إليها، من خلال التشبُّه بالمتسلط وتمثل عدوانيته وطغيانه ونمط حياته وقيمه المعيشية، وتتخذ وضعية التماهي بالمتسلط ثلاثة أشكال رئيسة: التماهي بأحكام المتسلط، والتماهي بعدوانه، والتماهي بأسلوبه الحياتي ومثله العليا وقيمه، ومن الواضح أن الشكلين الأولين يقومان على خشية المتسلط ورهبة جانبه، ومن ثم يهدفان إلى درء خطره أو التنكُّر لما يثيره هذا الخطر من قلق ذاتي، أما الشكل الأخير فيقوم على الإعجاب والرغبة في التقرُّب من نمطه الوجودي، مع ما يتضمَّنه ذلك من تنكُّر للجماعة الأصلية، قيمها ومعاييرها.
وفي الشكل الأول تبلغ العلاقة مع المتسلط أشد درجات السادومازوشية، بمعنى قبول التسلط والرضوخ له، في جو من الإفراط في رهبة المتسلط والإعجاب به في آن واحد، وفي الشكل الثاني يتخلص الإنسان من مأزقه من خلال قلب الأدوار، حيث يؤدي دور القوي المعتدي ويسقط كل ضعفه وعجزه على الضحايا الأضعف منه، والتماهي بعدوان المتسلط يحمل في ثناياه وهم الخلاص الذاتي.
ينتشر الشكل الثاني هذا بغزارة في الأجهزة والمؤسسات الحكومية والإدارية، حيث يحاول كل فرد التخلص من القهر والمأزق النفسي بممارسة قدر من التسلط على من هم دونه وهكذا، حتى تنتهي إلى الموظف الذي يتعامل مع المواطن، وبالنسبة إلى الشكل الأخير فإنه يتم برغبة الإنسان المقهور في الذوبان في عالم المتسلط، بالتقرُّب من أسلوبه الحياتي وتبني قيمه ومثله العليا، وقد بين فرانز فانون هذه الظاهرة وأسبابها، وذلك حين تحدث عن الأسباب التي تدفع الزنوج إلى كراهية ذواتهم السوداء، حيث يقول: لقد نجح الأوروبي الأبيض في أن يغسل مخ هؤلاء الزنوج وعمَّق فيهم الإحساس بأن السواد شرٌّ كله وقبحٌ كله، وأن السواد نقص وغباء وعلامة تأخُّر في التطور البيولوجي لبني الإنسان، ولهذا فإن الزنوج كرهوا سوادهم وشعروا بالخجل والعار تجاهه.
الفكرة من كتاب التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور
كثيرة هي الكتابات التي تناولت قضية التخلُّف في الدول النامية! ولكنَّها تركَّزت بالأساس حول الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، ومن ثمَّ قدمت حلولًا ترتكز على الاقتصاد والصناعة بوصفها منطلقات لنجاح عملية التنمية والتحديث، وتجاهلت معظمها عن عمدٍ أو جهل الإنسان، بوصفه محورًا رئيسًا لعملية التنمية، فقدَّمت هذه الأطروحات حلولًا مستوردة وحاولوا توطينها في بيئة غير التي خُلِقت لها، ولهذا لم تنتج إلا مشاريع برَّاقة صورية لم تحقِّق تنمية حقيقية ولا تقدمًا ملموسًا.
وفي هذا الإطار يأتي هذا الكتاب ليتناول الإنسان المتخلف بوصفه موضوعًا رئيسًا، ويركز على نفسيته وظواهر حياته وتصرفاته ونظرته ومواقفه واستجاباته للحياة من حوله، ويرى الكاتب أن سيكولوجية التخلف من الناحية الإنسانية هي سيكولوجية الإنسان المقهور الذي تسيطر على حياته علاقات القهر والتسلُّط والاعتباطية، والتي يواجهها بالرضوخ تارة وبالتمرد تارة أخرى، ومن ثم يعمد الكاتب إلى تناول سمات هذا الإنسان وأبعاده شخصيته كما سنرى.
مؤلف كتاب التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور
مصطفى حجازي: مفكر وعالم نفس لبناني. حصل على دكتوراه في علم النفس من جامعة ليون بفرنسا، وعمل أستاذًا للصحة الذهنية بجامعة لبنان ثم الجامعة البحرينية.
من أبرز مؤلفاته: “حصار الثقافة: بين القنوات الفضائية والدعوة الأصولية” (1998)، و”الإنسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية (2006)، و”الصحة النفسية: منظور دينامي تكاملي للنمو في البيت والمدرسة” 2006، و”علم النفس والعولمة: رؤى مستقبلية في التربية والتنمية” 2010، و”إطلاق طاقات الحياة: قراءات في علم النفس الإيجابي” 2011.