النفي والتهميش
النفي والتهميش
بعد أن يصطدم المثقف بالقيم السائدة، ويتحدى القوالب الجاهزة، ويُسائل الأفكار المنتشرة وينتقد السلطة ويحتج على ممارستها علنًا، فإنه يجد نفسه بين نتيجتين، إما النفي والاستبعاد وإما التهميش، أن يعيش في منفاه ويحمل شعورًا كبيرًا بالألم والحنين إلى الذكريات التي تحاصره وتذكره باستمرار بمنفاه، أو أن تهمش آراؤه وأعماله ولا تتاح له الفرص الكاملة للتعبير عنها وإيصالها إلى الجماهير، وأحيانًا يمارس النبذ والنفي على شعوب كاملة تمنع من الاتصال الحقيقي بالعالم سواء كان السبب احتلالًا عسكريًّا أو وضعًا اقتصاديًّا أو أوبئة منتشرة.
في منفاه يصبح المثقف أمام تحدٍّ جديد وهو مشكلة التكيف، ويمكن تقسيم المثقفين في تعاملهم مع التكيف في مجتمعاتهم الجديدة إلى تيارين رئيسين: المنتمين، وهم الذين يرتبطون بمجتمعهم الجديد بقوة، وتزدهر أوضاعهم بتحسن المجتمع ويتلقون الامتيازات ويتمتعون ببعض السلطة ومظاهر التكريم الرسمية نتيجة قولهم “نعم” وعدم إحساسهم بالاختلاف أو الرغبة في النشوز، في مقابل اللا منتمين الذين رفضوا قول “نعم” واختاروا استكمال حالة المنفى الكامل ومنعوا من كل الامتيازات الممكنة.
يمثل الفيلسوف الألماني اليهودي أدورنو نموذجًا للمثقف الذي صبغته سنون منفاه في أمريكا بعد استيلاء الفاشيين على الحكم بصبغة المنفي الدائم، فكان دائم الانتقاد لتفاصيل الحياة الأمريكية كلها، ولكن دفعه منفاه إلى تقديم أفضل كتاباته وهو الحدود الخلقية الدنيا، مقتنعًا بأن منفى المثقف ليس في كونه بأرض أخرى بعيدًا عن الأرض التي ترعرع فيها، بل هو منفى بسبب أسلوب تفكيره وطريقة رؤيته للحياة وأنه من المحرم على المثقف أن يشعر بالراحة أو التراخي.
ولكن يتمتع المفكر ببعض المميزات نتيجة نفيه أو تهميشه: الأولى أن مداره بين المعرفة والحرية، فلا شيء يغريه ولا يحرص على الحفاظ على مكاسب وامتيازات ما، بل يستمر في إثارة القلق والبلبلة، والثانية أنه يبصر الأمور في عزلة تارة وفي ارتباط بما حوله تارة أخرى، ويستطيع أن يتجاوز الظواهر الماثلة أمامه ويصل إلى مآلات الأمور وليس لحظتها وحسب، باعتبارها سلسلة من الأفعال البشرية الخاضعة للتحليل والنقد ولا تستحق التقديس.
وأخيرًا تمتعه بقدر كبير من الحرية، فقد خسر كل شيء امتلكه في وطنه، وهو الآن مسؤول عن نفسه فقط بأن يشق طريقه من البداية، أي أنه تحرر من الحمولة التاريخية والاجتماعية الثقيلة التي توجب عليه تصرفات معينة
الفكرة من كتاب المثقف والسلطة
لمتابعيها مادة علمية رصينة ممتعة تحت اسم “محاضرات ريث”، وتعرض لهجوم ومعارضة كبيرين لموقفه الناقد لسياسات الولايات المتحدة ودفاعه عن القضية الفلسطينية.
فمن هو المثقف أو المفكر إذًا؟ وما رسالته ومسؤوليته التي ينبغي له تأديتها؟ ما التحديات والقيود التي تقف أمامه لأداء رسالته؟ وكيف تطور صراعه مع السلطة وتنوعت أشكاله؟
هذه الأسئلة الكبرى التي حاول إدوارد سعيد تقديم الإجابة عنها عبر استعراض تحليلات لعدد من المثقفين أو المفكرين ثم الإدلاء بدلوه في كل قضية منها.
مؤلف كتاب المثقف والسلطة
إدوارد سعيد، مفكر وباحث فلسطيني حامل للجنسية الأمريكية، ولد لأسرة مسيحية بالقدس في نوفمبر عام 1935م، تخصص في دراسة الأدب الإنجليزي وحصل على شهادة الدكتوراه فيه بجامعة هارفارد عام 1964م، وعمل أستاذًا بجامعة كولومبيا لمدة 40 عامًا.
يعد من أقوى الناشطين المنتقدين لسياسات الولايات المتحدة وإسرائيل الخارجية، ممثلًا الصوت الأقوى في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية وحق الفلسطينيين في تقرير المصير.
ظل نشاطه كبيرًا متمثلًا في تجوله بين عدد من الجامعات الكبيرة وتقديمه عددًا كبيرًا من المحاضرات في مجالي السياسة والفكر، حتى توفي عام 2003م بعد صراع دام لعشرة أعوام مع اللوكيميا.
من أهم أعماله وأكثرها تأثيرًا كتاب الاستشراق، الذي انتقد فيه الصور النمطية التي قدمها الاستشراق الغربي عن الدول العربية والإسلامية، وتمييزها المعرفي والعرقي الذي اعتبره تسويغًا للإمبريالية.
معلومات عن المترجم:
الدكتور محمد عناني، أديب وكاتب مسرحي ومترجم، ولد بالبحيرة عام 1939م، حصل على البكالوريوس في اللغة الإنجليزية وآدابها من جامعة القاهرة عام 1959، والماجستير من جامعة لندن عام 1970م، وعلى الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام 1975.
له أكثر من 130 كتابًا باللغتين العربية والإنجليزية ولقب بعميد المترجمين.