النظرة الأفلاطونية
النظرة الأفلاطونية
وأما عن أفلاطون التلميذ، فقد قسم الحياة إلى قسمين: قسم هو الذي نحياه، وفيه تكون الموجودات حسية نشعر بها ونتعايش معها، وقسم أو عالم آخر هو عالم المثل العالم الشريف السامي الكامل الذي يحتوي الحقائق الكاملة، أما العالم الذي نعيشه فهو مجرد صور وخيالات لذلك العالم الذي صنعه هو وجعله أصلًا محكِّمًا للعالم الواقعي وبه يُقيَّم! فكلما اقتربت من عالم المثل فأنت بذلك قد اقتربت من الكمال المطلق، بل وسمَّاه بعالم الآلهة!
ولكن ماذا عن النفس؟ النفس أيضًا موجودة في عالم المثل وسابقة على البدن وعليمة بكل ما يجري في العالم الحالي، وعلى الرغم من اعترافه بأن معرفة النفس مما تعجز عنها المعرفة الإنسانية فإنه حاول تفسيرها من خلال عدة أساطير مثل أسطورة الكهف وأسطورة العربة، ففي أسطورة العربة مثلًا يرى أن النفس تشبه عربة يجرها جوادان لهما جناحان ويقودها العقل، وفي حال كانت تلك النفس إلهية فإن الجناحين متماثلان فيقودانها إلى السماء، أما النفوس الأخرى فلها جناح من الشهوة وجناح من الإرادة، وبالتالي فإن قيادتها نحو الأعلى الذي جاءت منه وتتطلَّع إليه تكون صعبة، الأمر الآخر أنه يرى أن هناك ثلاثة أنواع من النفس في البدن الواحد: نفس شهوانية ومكانها التشريحي البطن، وأخرى عاقلة في الرأس، وثالثة غاضبة ومكانها القلب، وفوق كل هذا وذلك فهو يبرهن بطرق عدة على أن النفس خالدة أبدية، بل وأزلية أيضًا.
العجيب في نظرة أفلاطون هذه هو صناعته لعالم من المثل وإعطائه الثقة الكاملة له على العالم الحسي الواقعي المُشاهد على الرغم من اضطراب وتردُّد أفلاطون نفسه في نظرياته عن النفس واعترافه باستحالة إدراك حقيقتها، وفوق هذا فإن هذه النظرية تخالف العقل الصحيح الذي يستدلُّ ويكتسب معاني ومسمياتٍ وصورًا ذهنية للأشياء حين يراها في الخارج بحواسه، وكذلك فليس كل ما يتخيَّله الإنسان يكون له وجود في الخارج، وليس كل ما في الخارج نستطيع معرفته أيضًا، ثم أين عمل الحواس من نظرية أفلاطون التي بها يُتوصَّل وتُكتَسب المعرفة! يبدو أن أفلاطون كان يهرب من واقعه إلى عالم شيَّده هو في خياله، وفي النهاية لم يتم له ما أراده لا في واقعه ولا حتى في خياله!
الفكرة من كتاب النفس عند الفلاسفة الإغريق
نعيش في هذه الحياة محاطين بأسئلتنا حول أنفسنا والآفاق والآخرين، علامات استفهام كثيرة نخاف أحيانًا أن نحاول مجرد الاقتراب من مصادر تجيبنا عنها، وكيف لنا أن نثق فيها مع تعدُّدها ومع ادِّعاء كل واحد منا أنها الحصرية بالحق وحدها!
تكمن الإجابة في “الحق”؛ فللحق وجه لا يشبه بقية الأوجه، وجه ثابت على مر الزمان وفي مختلف الأصقاع لا يتبدَّل ولا يتغيَّر ولا يضطرب، وجه آمن ترتمي في أحضانه بغير شكوك ولا ريبة، ستعرفه وحدك، وربما يساعدك على ذلك أن تلقي نظرة على تلك الأوجه المتعدِّدة حتى إذا وصلت إلى الحق أسلمت نفسك له بغير تفكير، تعالَ أُريك جزءًا يسيرًا من اضطراب الإنسان وحيرته وهو بعيد عن الحق، تعالَ أُريك بعض تلك الأوجه، ونصيحتي لا تطِل البحث ولا النقد، فوقتك في النهاية محدود، وأنت تعرف جيدًا فيمَ يجب عليك أن تنفقه!
مؤلف كتاب النفس عند الفلاسفة الإغريق
حياة سعيد باخضر: أستاذ مساعد بمعهد اللغة العربية لغير الناطقين بها في جامعة أم القرى بمكة المكرمة.