الممارسات الهمجية للتقنية
الممارسات الهمجية للتقنية
إن قيام العِلم بتجاوز تخصصه المتعلق بدراسة الطبيعة، واستخدام العلوم الإنسانية للطرائق العلمية والرياضية عند دراستها للإنسان، هو إقرار بأنه لا توجد معرفة سوى المعرفة العلمية، وأنها المعرفة الحقيقية، ولا معنى لذلك إلا أن العلم أُزيح إلى الصف الخلفي تاركًا مكانه لأيديولوجيا النزعة العلمية، التي تنظر إلى العالم بوصفة عالم العِلم فقط، ومن ثمَّ استبعد على إثر ذلك أي نوع من أنواع الاعتقادات والإنتاجات الثقافية غير العلمية، ويمكننا أن ندرج ذلك تحت بند هروب الإنسان من ذاته إلى خارجها، ولا يتوقف هروب الإنسان من كينونته الحقيقية عند الأيديولوجيا، بل يتجاوزها إلى الممارسة، ولعلَّ “التليفزيون” أحد أكثر أشكال الممارسة التي تُبين لنا هذا الهروب من النفس، كما تكشف لنا عن صورة من صور الهمجية.
إن التليفزيون كما هو معلوم ينتمي إلى عالم التقنية الذي بدوره ينتمي إلى عالم العِلم، ولا يقتصر الأمر عند انتماء التليفزيون إلى عالم التقنية، بل يتعداه إلى اختزال الحياة في مجرد النظر إلى الأشياء التي تُبث عليه، لذلك فإن التليفزيون يُعد نوعًا من أنوع الهروب، إذ يُغرق الإنسان المتفرِّج في مستنقع من الصور، إلى جانب الأخبار المعروضة على التليفزيون التي تُعرِّفه وتحركه، كما تُحرِّك وتُعرِّف أي وسيلة إعلامية أخرى، فالأخبار على وجه التحديد هي النفس الذي تتنفسه الوسائل الإعلامية، وتكمن مهمة الخبر السامية في أنه يُخلي مكانه لخبر آخر بينما يذهب هو إلى العدم، ومن ثمَّ فإن المهم على شاشة التليفزيون هو الحركة المستمرة للأخبار.
وإلى جانب الأخبار المعروضة يُمثل “البث المباشر” القيمة الجمالية للتليفزيون، حيث يُعرض كل شيء كالحوادث والأفراد والأشياء في الحال والتو دون أي تحضير أو إعداد في جميع أنحاء العالم في اللحظة نفسها، ومن جملة الحوادث التي تُعرض حوادث السطو المسلَّح على مكانٍ ما ومقابلة مع شاهد عيان على جريمة اغتصاب، وعرض أحداث رياضية، إلى جانب التقارير عن العملات والبترول والذهب، ومن الملاحظ أن جميعها لا ترتبط في ما بينها بأي رابط، فكل منها منعزل عن الآخر، ومن ثمَّ يُشير عدم الترابط والاتساق بينها إلى أن الأخبار هي مرادف لكلمة تفاهة، فهي تفسد أي حدث تنقله وتحكم عليه بالتفاهة، وهذا هو ما يشكل “الوجود الإعلامي” الذي يُعطل الحياة ويجعلها مقتصرة على المشاهدة، ليس مشاهدة الفرد حياته الخاصة، بل مشاهدة حياة الآخرين، ومن ثمَّ تُختزل الحقيقة في نهاية المطاف إلى الصورة والخبر المعروضين بشكل فوري، فيحكم عليهما بالموت فلا تكون لهما أي قيمة في اليوم التالي، وبناءً على ذلك نكون أمام تدمير وإنكار ذاتي للحياة.
الفكرة من كتاب الهمجية.. زمن علم بلا ثقافة
يُبين المؤلف في هذا الكتاب أنه لأول مرة في التاريخ يحدث انفصال بين العلم والثقافة إلى حد الصراع في ما بينهما في معركة وجودية حتى الموت، فنحن نشهد في عصرنا الحالي انفجارًا علميًّا يقابله انهيار وتدمير للإنسان، كما نشهد تطورًا علميًّا يسير جنبًا إلى جنب مع تداعي الثقافة وأفولها، كأن انتصار العلم هو اندثار للثقافة. ومن ثمَّ يُنادي المؤلف في طول الكتاب وعرضه بفصل العِلم عن الأيديولوجيا المرافقة والمفسرة له، وهي الأيديولوجيا المادية الهمجية التي تختزل الكون في مجموعة موضوعية من الظواهر المادية، وتقتصر في تفسير الحياة على الطرائق الرياضية الفيزيائية.
مؤلف كتاب الهمجية.. زمن علم بلا ثقافة
ميشيل هنري : هو فيلسوف وروائي فرنسي، كما أنه كاتب ومفكر، وأحد روّاد علم الظواهر (الفينومينولوجيا)، وعلوم الاجتماع والسياسة والفن، وكان يعمل أستاذًا في جامعة (بول فاليري مونبلييه) في فرنسا، كما عمل بالتدريس في جامعات فرنسية وأجنبية عديدة، من مؤلفاته:
I Am the Truth: Toward a Philosophy of Christianity.
Seeing the Invisible: On Kandinsky.
Words of Christ.
Material Phenomenology (Perspectives in Continental Philosophy).
معلومات عن المترجم:
جلال بدلة: مترجم وأكاديمي سوري من مواليد دمشق عام 1977، حاصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة المعاصرة من جامعة بوردو الثالثة، من ترجماته:
فلسفة العنف.
الهمجية.
الإسلام والجمهورية والعالم.
الهوية والوجود: العقلانية التنويرية والموروث الديني.