المعرِّي.. دَيْنُ الحياة، ودَيْنُ اللغة
المعرِّي.. دَيْنُ الحياة، ودَيْنُ اللغة
كانت بلدة معرة النعمان، التي نعرفها بفضل مولد أبي العلاء بها، مشهورةً بجودة نبات الفستق، وقد أرسل المعري بعضًا منه إلى أحد معارفه مع رسالة ورد فيها أن الفستق المرسل رديء لا يصلح إلا للهو الصبيان، ولم يقصد المعرِّي بذلك إهانة صديقه؛ إنما أراد تبليغه أنه لن يستدين بتسلُّم الفستق، ولن يكون في حاجة إلى أن يرد الهدية، هذه الحساسية التي انتابت المعرِّي في ما يتعلق بالهبة تعود إلى العمى الذي أصابه وهو صغير، وأصبح على أثره لا يقوى على كفاية نفسه بنفسه، فنجده يقول: “تصدَّق على الأعمى بأخذ يمينه.. لتهديه وامنن بإفهامك الصُّمَّا”.
تلك الحساسية لا تتعلق فقط بما يتبادله الناس من الهدايا والعطايا، إنما كان يرى الحياة نفسها هبةً أهداها إليه والده دون أن يطلبها، ودون أن يسعى إلى نيلها، والأدهى أنه ليس في وسعه ردها، بل إن والده -في رأيه- قد أهدى إليه الموت، لأن الموت مآل الحياة، لذلك أوصى أن يُكتب على قبره بيته الشهير ليظل شاهدًا على الجناية النكراء التي ارتكبها والده في حقه: “هذا جناه أبي عليَّ.. وما جنيتُ على أحد”.
ولَمَّا كانت نظرته إلى الحياة تشاؤمية والعالم يسير من خراب إلى خراب أشد، ولأنه لا يستطيع التخلص من عطية الحياة تلك، فقد قرَّر أن يتصرَّف كأنه لم يستلمها، سينبذ العالم الخارجي وينزوي في قعر بيته، آخذًا على نفسه عهد إصلاح ما أفسده أبواه، لن يتزوج ولن ينجب ليقضي بذلك على ما يخصه في دائرة الاستدانة.
كان هناك شيء واحد يراه جديرًا بنقله وتوارثه، اللغة العربية وعلومها، ويمكننا القول دون مبالغة، إن المعري قد حفظ الشعر العربي كله، ولم يشعر يومًا بالحاجة إلى إنسان قدر حاجته إلى الكاتب الذي يملي عليه أشعاره وأدبه، أبو العلاء الذي عاش عمره يرفض الهدايا والصلات، نقل إلينا شعره وأدبه ورسائله، وأنعم بها من عطية!.
الفكرة من كتاب أبو العلاء المعري أو متاهات القول
تتبَّع المؤلف في هذا الكتاب بعض المحطات في رحلة الأديب الألمعي والشاعر المشهور، الملقب بشاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء، أبي العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعرِّي.
إن المعرِّي أشهر من أن يُعرَّف، فهو من سار بذكره الركبان، وطبقت شهرته الآفاق وكثرت أخباره وتفاصيل أحواله، من قال عن نفسه: “وإنــي وإن كــنــتُ الأخــيـرَ زمـانُهُ.. لآتٍ بــمــا لم تَــسْــتَـطِـعْهُ الأوائل”، لكن هذه الأخبار بحاجة إلى من يمحِّصها بعين الناقد الثاقب والأديب الواعي، وهذا الكتاب يحاول مد يد العون لكل من حاول السير في متاهات أبي العلاء المعري.
مؤلف كتاب أبو العلاء المعري أو متاهات القول
عبد الفتاح كيليطو، أديب وكاتب مغربي، ولد في عام 1945م، يعمل أستاذًا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ويعد من أشهر نقاد الأدب واللغة المغاربة في العصر الحديث، وهو يكتب بالعربية والفرنسية، من أشهر مؤلفاته: “جدل اللغات”، و”لن تتكلم لغتي”، و”من شرفة ابن رشد”، وغيرها، وتُرجِمت أعماله إلى عدة لغات.