المسلمات النقدية والأنموذج الدهراني
المسلمات النقدية والأنموذج الدهراني
توجد ثلاث مسلمات نقدية تعامل معها الدهرانيون في مسعاهم نحو تأسيس أخلاق مستقلة عن الدين، المسلَّمة الأولى “التبدُّل الديني”، ومقتضاها أن الدين المنزل يتكوَّن من صورتين؛ الصورة الأولى (فطرية) وهي صورة الدين إيمانًا وأعمالًا أول ما نزل على النبي (صلى الله عليه وسلم)، والصورة الثانية (وقتية)، وهي الصورة التي يتخذها الدين في كل فترة تفصل أتباعه عن الرسول الذي جاء به، حيث قد يشهد الدين تأثيرات تغير في صورته الفطرية، كدخول الهوى الذي يعكِّر صفو الصورة الفطرية، أو دخول بعض الاعتقادات الفاسدة، بحيث يبتعد الدين قليلًا أو كثيرًا عن صورته الفطرية.
أما المسلمة الثانية فهي “التخلُّق المزدوج”، ومقتضاها أن صورتي الدين الفطرية والوقتية تختصُّ بوجه معيَّن من وجوه الصلة بالأخلاق، فالأصل في الصورة الفطرية أن ينطلق الدين من داخل الإنسان إلى الخارج، فتورثه أخلاق الباطن، بينما الصورة الوقتية ينطلق فيها الدين من خارج الإنسان إلى داخله فتورثه أخلاق الظاهر التي يبني عليها أخلاق الباطن، والمسلَّمة الثالثة “الآمرية الإلهية” ومقتضاها أن ما أمر به الله (عز وجل) خير وعدل، وما نهى عنه الإله شر وظلم، سواء أعقل المؤمن عللها ومقاصدها أم لم يعقلها، فإتيان المأمورات والبعد عن المنهيات يحقِّق تخلُّق الإنسان ويرتقي به إلى معارج الكمال، بينما عدم إتيانه المأمورات الإلهية وعدم تجنُّبه للمنهيات يحول دون تخلُّقه وتنزل به إلى الدركات.
وقد اتفق الدهرانيون من خلال الصيغ الأربع التي صاغوها على رد مسلمة “الآمرية الإلهية” وإنكارها، وقاموا باستبدالها “بالآمرية الإنسانية أو الآدمية”، فالصيغة الطبيعية للدهرانية أرجعت الآمرية إلى (الضمير)، والصيغة النقدية للدهرانية أرجعتها إلى (الإرادة)، بينما الصيغة الاجتماعية للدهرانية أرجعتها إلى (المجتمع)، والصيغة الناسوتية أرجعتها إلى (الإنسان الإله)، ويرجع اتفاق الدهرانيين حول إنكار الآمرية الإلهية إلى الجهل (بالقدْر الإلهي)، الناتج عن التصورات الفاسدة عن علاقة الإنسان بالإله.
الفكرة من كتاب بؤس الدهرانية.. النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين
قامت الحداثة منذ نشأتها على “فصل المتصل”، ونصطلح على أن نسميه (الدنيانية)، ومن صورها، (العَلمانية) وهدفها فصل السياسة عن الدين، و(العِلموية) وهدفها فصل العِلم عن الدين، و(الدهرانية) وهدفها فصل الأخلاق عن الدين، وكذا فصلت الدنيانية الفن والقانون وكل شيء عن الدين، وهدف هذا الفصل (الدنياني) صرف الدين عن تنظيم مجالات الحياة، وأبلغ تلك الفصول أثرًا وأشدها خطرًا هو (فصل الأخلاق عن الدين)، لتعلُّق الأخلاق بالإيمان، فضلًا عن صلة الإيمان بالدين.
وقد وضع الدهرانيون أربع صيغ للفصل بين الأخلاق والدين، يريدون من خلالها أن يجرِّدوا الأخلاق من لباسها الروحي، حتى يلبسوها لباسًا زمنيًّا دنيانيًّا بلا روح؛ فدعوى فصل الأخلاق عن الدين، دعوى باطلة، حيث تبطل تصوُّرات الدهرانيين عن الأخلاق والدين، حيث لا أخلاق بلا دين، كما لا روحانيات من خارج الدين، ومن ثمَّ لا بد من وصل ما فصله الدهرانيون، حتى نعيد إلى الأخلاق لبسها الروحي من جديد.
مؤلف كتاب بؤس الدهرانية.. النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين
طه عبد الرحمن: كاتب متخصِّص في علم المنطق وفلسفة اللغة والأخلاق، أحد أبرز الفلاسفة والمفكرين منذ سبعينيات القرن الماضي، كتب العديد من الكتب التي يؤسِّس من خلالها فلسفة إسلامية جديدة، ومن تلك الكتب: “العمل الديني وتجديد العقل”، و”روح الحداثة”، و”سؤال الأخلاق”، و”سؤال العنف”، و”ثغور المرابطة”، و”ما بعد الدهرانية”.