المجتمع الحديث
المجتمع الحديث
يقدِّم السوق وعدًا واحدًا بصور متكرِّرة، وهو تحقيق الإشباع، بينما ما يفعله حقيقةً هو الحفاظ على عدم الإشباع، عبر الحطِّ من قيمة السلع التي اشتراها الفرد بعد فترة قصيرة، مقابل سلعة جديدة يعد الفرد بأنها ستحقِّق رغباته الجديدة وأن القديمة لم تعد تكفيه، هذه العملية مستمرة في كل أنواع المنتجات، اقتصاد قائم على الخداع والإسراف والتخلُّص من المنتجات القديمة كالنفايات.
هل مجتمعنا الوحيد عبر التاريخ الذي مارس الاستهلاك؟ بالطبع لا، فالاستهلاك نشاط إنساني بامتياز، يمارس في كل الحقب الزمنية ومن خلال كل الأفراد، ولكن النزعة المميزة لمجتمعنا الحديث هي أنه يقيم أفراده حسب ما لديهم من قدرة استهلاكية، فإذا طلب من الفرد تعريف نفسه لا يخبرنا عن عمله أو دراسته أو عما يؤمن به، بل ما يستهلكه من منتجات وسلع وما يتابعه أو يشجعه من أنشطة رياضية أو اقتصادية وغيرها.
ما الذي يمكن أن يحدث للعلاقات الإنسانية في عصر يمجِّد السرعة والتغيير ويركض الأفراد كل أسبوع للبحث عن صيحة الموضة الجديدة؟
بالتأكيد لا شيء إلا التدهور والتأخر، فجوهر العلاقات الإنسانية يُراعى بالصبر والاهتمام والمثابرة، والملل والرتابة جزء أساسي منها، بينما الأفراد الذين يُطلَب منهم التحلِّي بتلك القيم، يتمركزون حول قيم السوق المتقلِّب والسريع والمتغيِّر، ويتخلَّصون باستمرار من كل ما لم يعد يحقِّق الإشباع الفوري اللذيذ.
هكذا تغيَّرت نظرة الأفراد إلى الجنس خارج إطار الأسرة والأطفال، فأصبح الأول محبَّذًا في بيئة سائلة يسهل التخلُّص منها دون عواقب أو مسؤوليات، ويتم دمج الأطفال في دائرة المستهلكين منذ نعومة أظفارهم، عبر برامج كرتونية وألعاب ومنتجات صُمِّمَت خصيصى لهم أو لأهلهم.
الفكرة من كتاب الحياة السائلة
عند الحديث عن مصطلحات كبيرة وغامضة مثل الحداثة وما بعدها والأنماط الاستهلاكية والقوى العولمية، يخيَّل إلى الأذهان أنها قضايا ليست مهمة بالنسبة لنا، ولا صاحبة تأثير في حياتنا اليومية كأفراد، وهذا خطأ شائع كفيل بتدميره قراءة أي كتاب لزيجمونت باومان، لنتيقَّن أن تلك المصطلحات والقضايا التي نهرب منها هي ما يشكِّل تفاصيل يومنا وأغلب أفعالنا إن لم تكن جميعها.
في كتاب “الحياة السائلة” يُناقش باومان عدَّة قضايا: مثل الحرية الفردية وصراعها مع الأمان ورغباتنا كأفراد، والظروف التي ينشِّئ فيها المجتمع أفراده، وكيف تتغيَّر باستمرار تبعًا للسوق، وما الذي ينالنا من آثار سلبية جرَّاء العولمة، وكيف يتحكَّم الخوف في أدق تفاصيل سلوكياتنا كاختيار المسكن والمنتجات التي نستهلكها.
مؤلف كتاب الحياة السائلة
زيجمونت باومان: بروفيسور في علم الاجتماع من جامعة ليدز، ولد عام 1925م ببولندا سكن إنجلترا منذ عام 1971م بعد طرده من بلاده بسبب آرائه العدائية عن الصهيونية، اهتمَّ في كتاباته بتحليل ونقد الاستهلاكية وقضايا الحداثة وما بعدها وتأثيرات حركة العولمة، ذاع صيته في التسعينيات، وتوفي عام 2017م.
من أهم أعماله “الثقافة السائلة”، و”الحب السائل: عن هشاشة العلاقات الإنسانية”، و“الأزمنة السائلة: العيش في زمن اللايقين”، و”الشر السائل: العيش مع اللابديل”.
معلومات عن المترجم:
حجاج أبو جبر: أستاذ النقد المصري، ولد في عام 1977م بالجيزة، درس الأدب الإنجليزي وحصل على الدكتوراه من جامعة القاهرة، له العديد من الإسهامات المقالية النقدية مثل “الحداثة في خطاب عبدالوهاب المسيري”، و”سيميولوجيا العدد”، وترجم كتبًا مثل “الشر السائل: العيش مع اللابديل”، و”الحب السائل”.