اللغة والذاكرة وحس الاتجاهات
اللغة والذاكرة وحس الاتجاهات
لمعرفة أوجه تأثير اللغة في الفكر وجب صرف النظر عن الاتفاق المعاصر على فطرية اللغة وضآلة تأثيرها في الفكر، ثم البحث في الموضع الذي قاد العلماء إلى اكتشاف تأثير اللغة في إدراك الألوان، وهو الاختلافات اللغوية في الثقافات المختلفة.
في لغة ينطق بها نحو ألف شخص من السكان الأصليين في أستراليا -وهي لغة الجُوجُو يِمِيثير- يعبر أهلها عن الاتجاهات مستخدمين الجهات الجغرافية (كالشمال والشرق)، بدلًا من النظام الأنوي (كالأمام واليمين) الذي نستخدمه، ويستطيعون دومًا وبلا أي تردد أن يحددوا الاتجاهات الجغرافية، وربما يرجع ذلك إلى أن التواصل في هذه اللغة يفرض على ناطقيها أن يكونوا على دراية بالاتجاهات، فيضطرون إلى الانتباه لها بشكل مستمر، ومع البحث اكتُشِفَت لغات أخرى تعبر عن الاتجاهات بالطريقة نفسها، وبعض اللغات تدمج المعالم الأصلية للمنطقة مع معالمها الجغرافية فتستخدم مثلًا تعبير (اتجاه البحر أو الجبل).
إذًا فالثقافات المختلفة تعبر عن المسافات والأماكن بأساليب مختلفة تمامًا، هل يعني هذا أنهم يفكرون في المسافات والأماكن بشكل مختلف عما نعرفه؟ بطريقة ما.. نعم، تجيب الدراسات والأبحاث، فقد تبين أنهم يتذكرون الأماكن تبعًا للإحداثيات الجغرافية، وهذا يعني أن للغة الأم تأثيرًا كبيرًا في حس الاتجاهات والذاكرة المكانية الجغرافية.
فسر بعض العلماء تعبيرهم عن الاتجاهات بالإحداثيات الجغرافية بأنها نتيجة حتمية لوجودهم في بيئة طبيعية واسعة، على عكس المجتمعات الكبيرة ذات المساحات الصغيرة التي يكفي التعبير فيها بالنظام الأنوي، وأضافوا أن اللغة هنا لا تتعدى كونها عاكسًا للفكر المتأثر بالبيئة حوله، غير أن هناك عديدًا من المجتمعات الشبيهة بالجوجو يميثير التي تستخدم الإحداثيات الأنوية فقط، وهناك مجتمعات أخرى تستخدم الإحداثيات الجغرافية والأنوية معًا في التعبير عن الجهات، فلا يعتمد نظام الإحداثيات للغة ما على البيئة بشكل كامل، بل يبدو أنه يستند إلى اختيارات ثقافية، ومن جديد قد تضع البيئة، أي الطبيعة، نوعًا من القيود على نظم الإحداثيات المحتملة في اللغة، ولكن دون ذلك تملك الثقافة حرية الاختيار.
الفكرة من كتاب عبر منظار اللغة: لم يبدو العالم مختلفًا بلغات أخرى؟ عبر منظار اللغة: لم يبدو العالم مختلفًا بلغات أخرى؟
لنقل أنك بعد تأملك في السماء الصافية وجهت سؤالًا واحدًا إلى ثلاثة أشخاص من جنسيات مختلفة، وكان السؤال هو “كيف تبدو السماء؟”، فجاءتك الإجابات كالتالي: “السماء جميلة وسوداء”، “السماء جميلٌ ولونه أزرق”، “السماء جميل/ة كالنحاس”.
إن كنت تقرأ هذه السطور بلسان عربي، فمن المؤكد أن تلك الإجابات تبدو غير عقلانية بالنسبة إليك، وبعيدة تمام البعد عن الواقع والحقيقة والمنطق، والأغلب أنك ستشكك في صدق المتحدثين أو سلامة قواهم العقلية.
ولربما ستشك في قواك العقلية إن علمت بالفعل بأن الثلاث جمل لا تشكو من خلل، وأنها منطقية وسليمة عقلانيًّا ولُغويًّا، وأن الفيصل الوحيد الذي يمكن الرجوع إليه هنا هو اللغة الأم لقائل كل جملة. إن الاختلافات البسيطة بين اللغات تبدو واضحة وضوح الشمس إن صِيغَت بهذه الطريقة، ولكن هل هي مجرد اختلافات لغوية؟ أم أنها تعبر عن اختلافات ثقافية ولغوية؟ وهل اللغة مجرد أداة، أم هي الصانع؟ ومن أين تأتي اللغة في الأساس؟ هل هي نتاج ثقافي، أم موروث طبيعي؟ هل تشكلنا اللغة أم نشكلها نحن؟
مؤلف كتاب عبر منظار اللغة: لم يبدو العالم مختلفًا بلغات أخرى؟ عبر منظار اللغة: لم يبدو العالم مختلفًا بلغات أخرى؟
غاي دويتشر :زميل باحث فخري بقسم اللغات واللغويات والثقافة في جامعة مانشستر، حصل على درجة الدكتوراه في اللسانيات من جامعة كامبريدج، وأجرى عديدًا من الأبحاث في اللسانيات التاريخية هناك، كما عَمِل أستاذًا في قسم اللغات والثقافات في الشرق الأدنى القديم بجامعة ليدن بهولندا.
من مؤلفاته:
كتاب “تجلي اللغة: جولة تطويرية عبر أعظم اختراع إنساني”.
معلومات عن المترجمة:
حنان عبد المحسن مظفّر
نائبة رئيس الجامعة لشؤون الطلبة في الجامعة الأمريكية بالكويت، وحاصلة على الدكتوراه في الأدب والنقد من جامعة إنديانا في بنسلفانيا، شغلت منصب أستاذ مساعد سابق في قسم اللغة الإنجليزية وقسم الدراسات العليا بجامعة الكويت، ولها عديد من الأبحاث المنشورة في النقد الأدبي والأدب الأمريكي، وفي الوقت الحالي هي عضوة في هيئة تحرير سلسلة «إبداعات عالمية» الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وقد ترجمت بعض الأعمال المهمة التابعة للسلسلة، ومن أمثلتها:
“ما بعد الإنسان” لروزي بريدوتي.
رواية “جمعية غيرنزي للأدب وفطيرة قشر البطاطا” لماري آن شيفر.