“القميص المسروق”
“القميص المسروق”
في ليلة ماطرة أشد ما يكون فيها البرد، يقف أبو عبد الرحمن المثقل من عناء البحث عن عمل طول النهار أمام خيمته، يتخوَّف من الدخول والنظر إلى عيني زوجه المتكدرة من انعدام المال وقلة الغذاء، وتقتله رؤية ابنه المنكمش في طرف الخيمة لا يقدر على النهوض من البرد ولا يجد ما يعينه من كساء على الصمود، حوار يتكرر كل ليلة بنفس الترتيب وينتهي بسؤاله لزوجته: “هل تريدينني أن أسرق لأحل مشاكل عبد الرحمن؟”، هكذا صار يتذكر السيناريو المعهود وهو يعمل على حفر خندق تجري به المياه الموحلة بعيدًا عن أوتاد الخيمة، هذا العمل المستمر معه طوال الليل البارد جعله يفكر: ولم لا يسرق كيس طحين أو اثنين أو حتى عشرًا من وكالة الغوث القريبة، يسدُّ جوع ابنه ويبيع بعضه لتاجر يساومه على ثمن يعود به إلى أم العبد فتهدأ عيناها ويخف عتابها ولومها، كان همه أن يرى البسمة على وجه ابنه، أراد أن يمحو رعشة البرد عن جسد الطفل النحيل، فأخذ يبرر ما نواه، فأموال تلك الوكالة ليست خالصة، بل هي أموال المعتدين، وعلى حد تعبيره “يقتلون القتيل ويمشون في جنازته”، واستمر التفكير حتى ظهر أمامه أبو سمير -ثقيل الوقع- يسأله ماذا يفعل وسبب اختفائه نهارًا وعمله ليلًا في هذا الطقس، ليجيبه أبو العبد: “أحفر طحينًا”، ليدرك الآخر أن ذهنه مشغول بالطحين فيعرض عليه أن يشترك معه فيما اعتاد فعله، سرقة أكياس الطحين من الوكالة تحت إشراف جندي أمريكي ويتقاسمون الربح، يدرك أبو العبد لم يتأخر صرف الأكياس ويدرك لم عانت النساء والأطفال الانتظار، ويخال نفسه متواطئًا مع ابتسامة الجندي الشامتة، لينقضَّ على الرجل دون وعي فتخرج زوجته لتجرُّه داخل الخيمة وهو يردِّد: سيُصرف في موعده، ويذهب ويحتضن ابنه متذكرًا أنه أراد له قميصًا جديدًا فينهمر في البكاء.
أراد غسان إعطاءنا لمحة عن حياة المخَّيمات ونواقص الأساسيات فيها، وما يكون من السوء في نفوس بعض البشر محاولين المنفعة متى ما صحَّ لهم دون أي اعتبارات لوطنية أو كفاح، إنه صراع للبقاء.
الفكرة من كتاب القميص المسروق
“القميص المسروق” قصة قصيرة يُعنون بها الكتاب ولم يقتصر عليها، فجاءت معها سبع قصص أخرى مما دوَّنه المؤلف خلال حياته، ثم جُمِعت في كتاب واحد بعد موته، وهذه الحكايات مجتمعة تخدم قضية واحدة وهي القضية الفلسطينية والقومية العربية، ولو نظرت إليها فرادى لوجدت كلَّ نص يقوم على سطر مفجع، يختلف عن الآخر في موضوعه والغاية التي يمثلها، تنوَّعت تلك الغايات فشملت الإنسان وعديد القيم كالكفاح والتضحية وحب الوطن، ومشاعر سلبية كاليأس وقتل الأحلام، وبعضها قد ناقش معضلات أخلاقية مستعصية كالخيانة على سبيل المثال لا الحصر، فهل تُفضَّل العلاقات الأسرية على الأرض؟ أم أن الوطن فوق الجميع؟ وهكذا يستمر الطرح والجواب في سياق أدبي قائم على الرمز دون الإكثار من المترادفات والإغراق في البيان والفلسفة، وهذا جُل ما يميز أسلوب غسان كنفاني.
ربما يظن البعض أن التلخيص قد يبخس جودة المنتوج الأدبي المعتمد أساسًا على إبداع الكاتب نفسه ومفرداته وتعابيره المنتقاة، بما لا يدع مجالًا لإنكار هذا الجانب، لكننا ننوِّه أن الملخص بحد ذاته وسيلة أدبية أيضًا وله جماله وغرضه، بما لا ينتقص من قدره ولا من قدر العمل الأساسي، بل هو أشبه بوسيلة عرض أعيدت هيكلتها لتنجزك وقتًا وتزيدك علمًا.
مؤلف كتاب القميص المسروق
غسان كنفاني أديب المقاومة، صاحب القلم الصارخ والكلمات المنتفضة في وجه الاحتلال الغاشم، وُلِد الصحفي والكاتب فلسطيني الهوية في عام 1936م، ملتحقًا فيما بعد بجامعة دمشق لدراسة الأدب العربي، ليصبح من أشهر أدباء العرب وأحد أبرز الناشطين السياسيين في العصر الحديث، له من المؤلفات ثمانية عشر كتابًا بين الروايات والقصص القصيرة والمسرحيات والدراسات، والمئات من المقالات السياسية والثقافية، منها المجموع بعد موته ومنها ما اتخذ سبيله إلى العالمية، فترجم إلى لغات بلغت العشرين، ومنها ما صيغ في قالب مسرحي أو إذاعي عُرِض على صعيد الدول العربية والأجنبية، وانضم بعضها إلى صفوف المنهاج الدراسي في المدارس والجامعات، ومن أشهر تلك الروايات: “عائد إلى حيفا”، و”أرض البرتقال الحزين”، و”رجال في الشمس”.
لم يُسلَّح غسان بالشكل المعتاد العاكس للدموية، لكن وقْع ما خطَّ كان وما زال محركًا فعالًا للنفوس الثكلى والعقول الحية، وبات بمنتوجه الأدبي يمثل تهديدًا على المحتل الهش، فاغتيل إثر ذلك في بيروت عام 1972م.