القمع
عندما يطيع الجلاد السلطة فإنه ينتقم من ماضيه، ويعطي فرصة لنفسه لكي يمارس العنف الممارَس عليه سلفًا على الآخرين، والسماح بولادة نسخة جديدة منه تتسم بالآلية في تأدية دوره في تعذيب وقمع الآخرين دون تساؤلات أخلاقية تراوده، وإلغاء ذاته وإرادته في طاعته العمياء للسلطة، مدفوعًا بفعل الخوف منها ومن الآخرين أو الحاجة والجوع.
يمر ذلك الشخص بمرحلة يعاد فيها بناؤه من الداخل، لكي يناسب دوره الجديد كأداة، أو بمعنى أدق حيوان مروَّض يُستخدَم ليلحق الأذى بغيره، ويستمتع بممارسة القوة وإظهارها على العاجزين، وإخضاع المتمرد وتحطيمه، وفرض الإرادة الخارجية عليه، لكي يكون عبرة للآخرين، الذين يغذون العدوان والتسلط بقدر ما يظهرون خوفهم وضعفهم، فلا بد من وجود طرفين قوي وضعيف، جلاد وضحية لكي تستقيم النزعة.
لن يقدر الجلاد أو السلطة على تعذيب الجميع، ولذلك يعتمدون على إشاعة الخوف على أكبر نطاق ممكن بدلًا من توليده، وأهم شيء يُقمَع لدى الإنسان هو شعوره بالحرية، وعلى عكس الشائع ليس ذلك فقط ما يخسره الإنسان في السجن، بل تُسلَب منه إنسانيته الكاملة بتفاصيلها وعاداتها وفرديتها، مرة أخرى هو محروم من شكل حياته القديم الذي كوَّن نمطه، وانخرط في الجمهور المسجون، في نمط حياة جديد أقرب إلى الحيوانات المفتقرة إلى الخصوصية.
لا يشترط أن يكون السجن مساحة محددة محاطة بالجدران ومقسمة إلى زنازين، بل يمكن أن يتسع ليشمل البلاد كلها، إذا توافرت عوامل السجن فيها، سنرى كيف يتحول أفراد المجتمع إلى مقموعين وقامعين، يمارسون أدوارهم بمنتهى الإتقان في الخارج.
الفكرة من كتاب حيونة الإنسان
اختلف الفلاسفة والمفكِّرون في تعريف الإنسان، فتارة هو حيوان ناطق، وأخرى هو حيوان له ذاكرة، وأحيانًا حيوان يميل إلى الاجتماع، بينما يرى الدين أنه مخلوق كرَّمه الله، له نزعات أو شهوات يشترك فيها مع الحيوان، وبنظرة بسيطة حولنا نجد أن عالم اليوم يتبع كل أساليب القهر النفسي والجسدي كي ينزل الإنسان إلى مرتبة الحيوان بالكلية.
عملية حيونة الإنسان تتم بالتدريج، وتتخذ من التعود داعمًا كبيرًا لها، فنحن نألف كل قبيح مهما كان ثم نتقبله لكي نتكيَّف ونبقى على قيد الحياة بشعور أقل بالألم، فما الذي يحمل الإنسان على ممارسة العدوان والظلم ضد إنسان آخر؟ أي ما سبب كل تلك المجازر والحروب التي أراقت العديد من الدماء؟ وكيف تنشأ الأنظمة الاستبدادية وتتغذَّى على ممارسة العنف والخوف لدى شعبها؟ وهل نحن بعيدون كما نتخيل عن عملية الحيونة أم من الممكن أن تصيبنا أيضًا؟ كل تلك الأسئلة نجد إجابتها في كتاب “حيونة الإنسان”.
مؤلف كتاب حيونة الإنسان
ممدوح عدوان: كاتب ومسرحي ومترجم وشاعر سوري، ولد في محافظة حماة عام 1941م، وسُمِّي “مدحت”، ولكن نُصِح والده بتغيير اسمه زعمًا بأنه تركي الأصل، وخوفًا من عداوة السوريين للأتراك في ذلك الوقت، فعرف بقية حياته بممدوح، التحق بجامعة دمشق لدراسة اللغة الإنجليزية بقسم الآداب، وعمل في نفس الفترة بصحيفة “الثورة”، ثم عمل لفترة في تدريس مادة الكتابة المسرحية في المعهد العالي للفنون المسرحية، وتوفي عام 2004م بعد صراع مع مرض السرطان.
تنوَّعت أعماله بين مقالات ومسرحيات مثل: “محاكمة الرجل الذي لم يحارب”، وكتب أشهرها: “تهويد المعرفة”، و”دفاعًا عن الجنون”، ودواوين شعرية مثل: “الظل الأخضر”، و”حياة متناثرة”، بينما اكتفى بروايتين فقط هما: “الأبتر”، و”أعدائي”.