القرية النموذجية
القرية النموذجية
كان المرسوم الذي صدر في يناير عام 1830 بحبس الفلاحين داخل قُراهم وعدم السماح لهم بالخروج منها إلا بموجب حصولهم على تصريح، معبرًا بقوة عن النمط الجديد لشكل الحياة التي يُراد للمصريين أن يعيشوها، فقد كان الفلاح المصري قبل التنظيم الجديد على يد محمد علي باشا، جزءًا من الأرض التي يعيش فيها وتتمحور حياته حولها، وكانت حياته تنتظم وَفقًا لنمط حياة متناغم مع الناموس الكوني، وذلك فيما يخصُّ مواعيد البذر والري والحصاد، وحتى داخل بيت الفلاح؛ من حيث شكل البيت وتنظيمه (مكان النوم والمعيشة ومكان المأكل والاجتماع ومكان الماشية والبهائم)، كان كل هذا ينتظم وفقًا لتفاعل وتناغم بين الفلاح والفضاء الخارجي حوله.
غير أن هذا لم يكن مناسبًا لشكل التنظيم الجديد المبتغى لبناء الدولة الحديثة، ومن ثم تمَّت هندسة القرى وهدمها وإعادة بنائها مرة أخرى بما يتفق مع نمط الإنتاج الجديد الذي تريده الدولة، ويتفق أيضًا مع عملية الضبط والمراقبة التي ستفرضها الحكومة على القرية، والذس سيحيلها مع الوقت إلى سجن مغلق على الفلاح، يمتنع عليه الخروج منه وإلا تعرَّض للعقاب، وتصبح القرية المغلقة بمنزلة مصنع للإنتاج، تُهدَر فيه حياة الإنسان ويتحوَّل إلى آلة مُصطنعة.
الفكرة من كتاب استعمار مصر
يرى الكاتب أن الدولة الحديثة التي نشأت في مصر على يد محمد علي باشا -وبمعاونة أوروبية (إنجليزية وفرنسية)- إنما نشأت على شكل سجن بانوبتيكوني بالأساس، وسجن البانوبتيكون هذا هو نموذج رسمه الفيلسوف القانوني الإنجليزي جيرمي بنتام؛ وهو عبارة عن “زنازين ذات شبابيك واسعة على شكل حلقة دائرية يتوسَّطها برج مراقبة” تتيح هذه الزنازين للحارس القابع في برج المراقبة أن يرى النزلاء، ولا يمكن للسجين أن يرى الحارس، ومن ثم ومع مرور الوقت يستبطن السجين نظرة الحارس ويشعر دائمًا أنه مراقب، وأن ثمة من يترصَّده.
وعلى هذا يتفق ميتشل مع الفيلسوف الفرنسي فوكو في أن الدولة الحديثة قد بنيت على شكل سجن بانوبتيكوني ضخم، بحيث يصبح الشعب سجين الدولة، والدولة هي الحارس القابع في البرج، ويستلزم بناء هذا السجن عملية تنظيم وتنشئة وتربية اجتماعية واسعة النطاق؛ تعمد إلى تغيير سلوك الشعب ونمط حياته بما يتفق وبناء الدولة الحديثة، وهكذا يتناول هذا الكتاب عملية الهندسة الاجتماعية التي صاحبت بناء الدولة الحديثة التي فتحت الطريق أمام الاستعمار الإنجليزي؛ فإن هذه العملية قد تمت أساسًا بأعين وأيدٍ أوروبية ومباركة باشاوية.
مؤلف كتاب استعمار مصر
تيموثى ميتشل Timothy Mitchell: عالم سياسة بريطاني، وأستاذ دراسات الشرق الأوسط في جامعة كولومبيا، وأستاذ سابق للعلوم السياسية في جامعة نيويورك.
له مؤلفات عديدة منها: “الديمقراطية والدولة في العالم العربي”، و”دراستان حول التراث والحداثة”، و”ديمقراطية الكربون: السلطة السياسية في عصر النفط”.