الغرائز البشرية عَقَبة حضارية
الغرائز البشرية عَقَبة حضارية
يندمج الفرد بمجتمعه على نحو مُتدرِّج مُتنوِّع من مجتمعٍ إلى آخر ومن حضارة إلى أخرى، وتختلف كيفية الاستجابة للغرائز البشرية التي فُطر الإنسان عليها وتنظم تلك العلاقة: الأصول الدينية والقواعد والتقاليد والأعراف والقوانين الوضعية التي يُمليها المجتمع على الأفراد، ذلك الاندماج حتميٌّ ولا بدَّ منه، فلا يمكن القول مثلًا إنه يجب إلغاء الدوافع الغذائية أو الدوافع الجنسية أو إلغاء دوافع التملُّك، وإنما يحدث تكامل وانسجام وتهذيب للدوافع بين طاقات الأفراد وبين الحضارة.
في الواقع إن ذلك التكامل وطبيعته من المفترض أن يُميِّز حضارةً عن الأخرى، ويحدِّد ما إذا كانت تستطيع أن تعيش حضارة ما مع تلك الدوافع بصورة طبيعية متزنة أم أنها ستنحدر إلى هوَّة عميقة! وعلى سبيل المثال فإن الحضارة المسيحية لم تستطِع أن تحتوي على الدوافع الجنسية، فاختارت المواجهة بفكرة “الرهبانية” وتمييز الأفراد بين نماذج “المترهبنين” والعوام والذين يجب أن يصلوا إلى تلك النماذج والمُثل العُليا.
دائمًا الحلول المتطرِّفة لا يمكن الاعتماد عليها في السيطرة على الدوافع البشرية، لأنها تدفع المرء إلى محاولات لا تنتهي من السعي في الطريق المخالف، فلا يمكن مواجهة الدوافع بالمنع الصارم أو التحرُّر الكامل، ولعلَّ أكبر مثال في الواقع المعاصر هو ما وصل إليه المجتمع الأمريكي اليوم من تمركز حول القيم النفعية الذاتية (عالم الأشياء)، والتي تطمع وتطمح في إيجاد اللذة فقط أينما كانت، فأصبحت قدرة التكيف مع تلك الغرائز البشرية ضعيفة للغاية، وهذا عكس المجتمع الإسلامي، فعلى الرغم من التخلُّف في عالم الأشياء، فإنه ما زال محتفظًا بعض الشيء بمركزية القيم الأخلاقية (عالم الأفكار)، وإن كان ذلك التمركز تختلف درجته من مرحلة زمنية إلى أخرى حيث كانت في مرحلة الأفكار الأصلية ذروة التمركز حول القيم، ومن ثم ذروة التكيُّف والتقبُّل للغرائز البشرية، وحينما استبدل المجتمع الإسلامي في (ما بعد التحضُّر) تلك الأفكار ببعضٍ من عالم الأشياء، انحسرت المركزية القيمية قليلًا كرد فعل طبيعي لهذا الاستبدال.
الفكرة من كتاب مشكلات الأفكار في العالم الإسلامي
يمرُّ الواقع الإسلامي بلحظات صعبة فارقة، من شدة التخلُّف الحضاري لا يستطيع المسلمون تحديد من أين يبدأ الطريق: هل من خلال عالم الأفكار، أم عالم الأشياء، أم عالم الأشخاص؟
يناقش الكاتب المشكلات الفكرية التي يعانيها العالم الإسلامي، ويحلِّل الواقع معتمدًا على التاريخ وطامحًا في المستقبل، يحاول أن يبيِّن السبيل للنخب الفكرية والمثقفين حتى يضعوا أيديهم على لُب المشكلة، كما يبين بعض المفاهيم الفكرية الخاصة التي استحدثها من أجل تبسيط المكونات الاجتماعية.
مؤلف كتاب مشكلات الأفكار في العالم الإسلامي
مالك بن نبي: مفكر إسلامي جزائري، ولد في الأول من يناير عام 1905 في قسنطينة بالجزائر، وتابع دراساته القرآنية ودرس بالمدرسة الفرنسية وتخرج عام 1925، سافر بعدها إلى فرنسا وانغمس في دراسة الحياة الفكرية، انتقل إلى القاهرة هاربًا من فرنسا بعد إعلان الثورة الجزائرية، وعاد إلى الجزائر بعد الاستقلال وتم تعيينه مدير عام التعليم العالي، وانشغل بإلقاء المحاضرات والتأليف والبحث، وتوفي في الواحد والثلاثين من أكتوبر عام 1973.
من أشهر مؤلفاته: “القابلية للاستعمار”، و”شروط النهضة”، و”مشكلة الثقافة”، و”الصراع الفكري في البلاد المستعمرة”.