العولمة والحصار الأخلاقي
العولمة والحصار الأخلاقي
إذا افترضنا قيام شكل من أشكال الحكم الإسلامي النموذجي في هذا العصر، فلزامًا علينا التسليم بأن هذا الحكم يجب أن يعيش في مجتمع من الدول الحديثة القائمة على الأسس والمعايير التي ذكرناها سلفًا، ولكي يُعترف بالحكم الإسلامي كيانًا سياسيًّا، لا بد من الاعتراف به جزءًا من الدول القومية، ليس هذا فحسب، فالنظام الدولي أصبح يتألف من دول تحكمها قوة حديثة هي العولمة، وهي صورة اقتصادية متوحشة، وسياسية وثقافية مخترقة للمجتمعات، إذ تتداخل الحوادث والمعاني المحلية مع العالمية وتصير جزءًا لا يتجزأ منها، والعكس بالعكس، كما أنه من الواضح للعيان أن العولمة مشروع الدول الثرية القوية والشركات العملاقة العابرة للقوميات توجهها أسواق واقتصاديات رأسمالية.
وبسبب قوى العولمة تفقد الدولة جزءًا من قدرتها في الحفاظ على استقلال سلطاتها التنفيذية والتشريعية، كما تفقد قدرًا معينًا من التحكم في مجالاتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المحلية، ومن المفروغ منه أن الهيمنة الثقافية على العالم غير الغربي ملازمة لأشكال من السلطة السياسية والعسكرية المهيمنة الملازمة للاقتصاد والأسواق، ومن ثمَّ فإن الدولة مصدر مهم للعولمة، ومن الأمثلة البارزة على دور الدولة، أن مفهوم الشركة التي خلقتها ونظمتها تلعب على الدوام دور القوة الدافعة لها، والحقيقة التي لا مراء فيها أن الشركة يقيمها القانون من أجل هدف واحد، ألا وهو جني أرباح أكبر وزيادة ثروتها، ويعلو هذا الهدف على كل ما عداه.
مما سبق يتبين لنا أن الانعزال ليس خيارًا ممكنًا للحكم الإسلامي، إذ لا بد أن تتعامل مع الدول القومية والعالم المعولم، وهو ما يتعارض مع النموذج الإسلامي الذي يتأسس على ما نسميه اقتصادًا أخلاقيًّا، ينبني على كليات خمس، هي حفظ (المال، والنفس، والدين، والعقل، والنسل)، فتتحقق كلية حفظ المال من خلال القواعد المنظمة لحفظ الملكية والثروة، وكلية حفظ النفس من خلال تشريعات كالقصاص، وكلية حفظ الدين من خلال قوانين الجهاد والردة، أما كلية حفظ العقل فتتحقق من خلال قواعد وتنظيمات تحدد الأهلية القانونية وتجريم المسكرات المغيبة للعقل، وكلية حفظ النسل من خلال قواعد تنظيم الزواج والطلاق والميراث وتجريم الزنا، وهذه الكليات تتداخل في ما بينها لتحدد مقاصد القانون الأخلاقي الإسلامي الذي وجد من أجل مصالح العباد.
الفكرة من كتاب الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي
يرى حلَّاق أن وجود دولة إسلامية أمر بعيد المنال ومستحيل التحقق، لأن أي مفهوم للدولة الحديثة يتعارض بشكل صارخ مع الحكم الإسلامي ما قبل التحديث، إذ إن الحكم الإسلامي يرتكز على الأخلاق ويخضع لسيادة الله، بينما الدولة الحديثة تجعل الأخلاق هامشية وتخضع لإرادة وسيادة من صنعها، لذا فإن الكفاح السياسي والقانوني والثقافي لمسلمي اليوم يرجع إلى غياب الانسجام بين تطلعاتهم الأخلاقية والثقافية من جهة، والواقع الأخلاقي المتردي للعالم الحديث من جهة أخرى، وهو واقع لا مفر للمسلمين من العيش فيه!
مؤلف كتاب الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي
وائل حلَّاق: كندي من أصول فلسطينية، ولد لأسرة مسيحية في مدينة الناصرة، وهو باحث ومتخصص في الدراسات الفقهية الإسلامية، درَّس لسنوات في جامعة “ماكجيل” في كندا، ثم انتقل إلى جامعة “كولومبيا” في نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية، وعمل فيها أستاذًا للإنسانيات والدراسات الإسلامية في قسم دراسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا وإفريقيا، من مؤلفاته:
تاريخ النظريات الفقهية في الإسلام: مقدمة في أصول الفقه السني.
الشريعة: النظرية والتطبيق والتحولات.
معلومات عن المترجم:
عمرو عثمان: باحث وأكاديمي في قسم العلوم الإنسانية بجامعة قطر، درس العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وحصل على درجة الماجستير من جامعة سانت أندروز في اسكتلندا، والدكتوراه من قسم دراسة الشرق الأدنى بجامعة برنستون الأمريكية.