العوامل البعيدة في تشكيل رأي الجمهور
العوامل البعيدة في تشكيل رأي الجمهور
هناك العديد من القوى اللاشعورية والتي تؤثر في المسار العام لتطور الشعوب، وهي في الحقيقة ليست جزرًا منفصلة، بل يكمل بعضها بعضًا، وبالكشف عنها يصبح حينئذٍ التاريخ ليس مجرد كومة من الصدف العبثية التي تراكمت عبر الأزمان، فالعوامل المتأصِّلة في ذاكرة الشعوب تجعلها مهيأة لقبول بعض الأفكار ونبذ الأخرى، ومن ثم الانسياق خلفها والتضحية في سبيلها دون النظر إلى مدى صحتها، ولعلَّ أبرز تلك العوامل هي الأعراق البشرية، والتقاليد الموروثة، والزمن.
ويعد العرق البشري هو سلطان تلك العوامل وأهمها على الإطلاق، فهو صاحب الكلمة الأولى في توجيه الشعوب والجماعات نتيجة الصفات النفسية والغرائز اللاشعورية المشتركة بين أفراده، التي تأصلت عبر قرون زمنية طويلة، ومن هنا كان تأثير الأجيال السابقة ملحوظًا في الأجيال اللاحقة، فالإنسان مُسيَّر بأسلافه، لذا تتحكَّم الأعراق البشرية بوضوح في العناصر الحضارية للجماهير حتى تنطبع على روحها ومحدِّدات أفكارها، ومن خلاصة تلك الأعراق تنبثق العادات والتقاليد الموروثة حيث يمكن اعتبارها بمثابة تراكمات وراثية بطيئة تُكوِّن في مجموعها ما يمكن تسميته بالروح القومية، وهي بهذا المفهوم تعدُّ القائد الحقيقي للجماعات حتى وإن تغيرت مظاهرها الخارجية.
لكن على الجهة الأخرى تتغير تلك الموروثات ببطء شديد قد لا يتناسب مع سرعة الأحداث وتطورها، ومن هنا كانت الصعوبة تكمن في خلق توازن ما بين ما هو ثابت وما هو متحوِّل حتى نحفظ الذاتية المجتمعية من ناحية ونواكب التطور البشري من ناحية أخرى، لهذا كان العامل الزمني له دور محوري لتشكيل تلك الثوابت الموروثة وتغييرها في آن واحد، فالجبال القائمة اليوم احتاجت قرونًا طويلة حتى تتكوَّن من حبات الرمال المتناثرة، وهكذا يصبح الظرف الزمني بمثابة البوتقة التي تنصهر بداخلها كل العناصر التاريخية مجتمعة، فالأحداث الكبرى اليوم بمثابة نتيجة طبيعية لمتوالية من الأحداث الضاربة بجذورها في أعماق الماضي.
الفكرة من كتاب سيكولوجية الجماهير
“إن الأسياد المتوارين الذين يسيطرون على أرواحنا يقاومون أي محاولة للإطاحة بهم، ولا يستسلمون فقط إلا للاستهلاك البطيء الذي يتم عبر القرون”.
تعدُّ الجماهير أشبه ما تكون بسيل منهمر يستحيل الوقوف في طريقه، ولكن من الممكن ترويضه والاستفادة من قوته الغاشمة، وعلى ذلك فمن يستطِع الوصول إلى تلك القوى النفسية الخفية في توجيه الشعوب والجماهير فقد امتلك بذلك مصاير الشعوب بيده، ذلك أن الأمم مُسيَّرة بتلك الموروثات من مشاعر وأخلاق واحتياجات وطبائع وشهوات وأوهام، وهذا ما يحاول المؤلف سرده في هذا السِّفر العظيم.
مؤلف كتاب سيكولوجية الجماهير
غوستاف لوبون : طبيب ومؤرخ فرنسي، وواحدٌ من أشهر المؤرخين الأجانب الذين اهتموا بدراسة الحضارات الشرقية والعربية والإسلامية، ولد في مقاطعة نوجيه لوروترو، بفرنسا عام ١٨٤١م، وقد درس الطب، وقام بجولة في أوروبا وآسيا وشمال أفريقيا، واهتم بالطب النفسي، وأنتج فيه مجموعة من الأبحاث المؤثرة عن سلوك الجماعة، والثقافة الشعبية، ووسائل التأثير في الجموع، ما جعل من أبحاثه مرجعًا أساسيًّا في علم النفس، وقد تُوفِّيَ في ولاية مارنيه لاكوكيه، بفرنسا 1931م.
من مؤلفاته: “حضارة العرب”، و”روح الثورات والثورة الفرنسية”، و”روح الجماعات”، و”السنن النفسية لتطور الأمم”، و”روح الاجتماع”.
معلومات عن المترجم:
هاشم صالح: كاتب ومفكر ومترجم سوري، وُلد في العام 1950، أنهى مرحلة دبلوم الدراسات العليا بجامعة دمشق كلية الآداب، وعمل بعدها معيدًا في كلية الآداب جامعة حلب بسوريا، ونال منحة دراسية لدرجة الدكتوراه إلى جامعة السوربون، كما ناقش رسالة الدكتوراه عام 1982 عن الأدب والنقد الأدبي العربي، وله العديد من المؤلفات منها: “مدخل إلى التنوير الأوروبي”، و”الانسداد التاريخي”.