العوالم الثلاثة
العوالم الثلاثة
صناعة التاريخ عند مالك هي خلاصة تفاعل بين عالم الأفكار الذي يقدِّم النموذج والقيم والغايات العليا وراء أي تحرُّك للمجتمع، وعالم الأشخاص الذي يقوم على وضع الأفكار موضع التنفيذ من خلال ما يراه من وسائل وموارد متاحة في عالم الأشياء، وغنى المجتمع في كل عالم من هذه العوالم لا يعني تحقيقه حتمًا للتقدُّم، فالأهم هو الكيفية التي تتفاعل بها هذه العوالم، ومدى متانة أو تمزُّق شبكة علاقاته الاجتماعية.
إن أول عنصر للتحوُّل من الواقع المتراجع إلى الواقع المتحضِّر الراقي يقع عندما يغيِّر الفرد نفسه من كونه “فردًا” له نزعات بدائية فطرية انطلاقًا من مجرد نوعه إلى أن يصبح “شخصًا” تربطه نزاعات اجتماعية انطلاقًا من انتمائه إلى المجتمع؛ فالراوبط بين عالم الأشخاص هي التي تقدِّم الروابط الضرورية بين الأفكار والأشياء، وتكون الثقافة هي وسيط العلاقة بين هذه العوالم الثلاثة، كما تكون اللغة وسيطًا للتواصل بين الأفراد، لذلك لا يقرُّ ابن نبي أية أهمية للتفسيرات المادية كدافع لحركة المجتمعات وتقدُّمها؛ فالعلاقات الاجتماعية هي التي تقرِّر وتحدِّد تأثير العوامل المادية (الاقتصادية).
ولا يُقاس غنى المجتمعات بما تملك من أشياء، ولكن بمقدار ما فيها من أفكار، فإذا فقد المجتمع مثلًا عالم أشيائه بفعل فيضان أو زلزال فإن بإمكانه بما يمتلكه من عالم أفكار أن يعيد بناء عالم الأشياء؛ أما العكس فمُحال! ومثال ذلك ألمانيا التي دمَّرتها الحرب العالمية الثانية، ولكنها في أقل من عقدين استطاعت استعادة قوتها والآن هي قوة اقتصادية عظمى؛ والفضل في ذلك لا يعود وحسب إلى عالم الأفكار، بل أيضًا إلى شبكة العلاقات الاجتماعية المنظِّمة لعالم الأشخاص وعلاقته بعالم الأفكار؛ ففاعلية الأفكار تخضع لشبكة العلاقات!
الفكرة من كتاب ميلاد مجتمع.. شبكة العلاقات الاجتماعية
يتناول هذا الكتاب فكرة ميلاد المجتمعات والظروف التي تنمو وتتطوَّر فيها إلى أن تصل إلى مرحلة الشيخوخة، وكعادة مؤلِّفه يمسك بزمام مصطلحاته ومفاهيمه فيُعِدُّ منها نسيجًا تحليليًّا يفكِّك من خلاله أبعاد موضوعه، وتكمن أهمية هذا الكتاب في اقترابه بصورة عملية من واقع مجتمعاتنا في الوقت الراهن، كما يبصِّرنا بالصيرورة التاريخية للمجتمعات وشروط بعثها انطلاقًا من حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “لا يصلح حال آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”.
مؤلف كتاب ميلاد مجتمع.. شبكة العلاقات الاجتماعية
مالك بن نبي: مفكر إسلامي جزائري، ولد في الـ28 من يناير عام 1905، تتميَّز سلسلة كتاباته عن الحضارة ومشكلاتها، بعمق تحليلها الاجتماعي والنفسي الذي يجمع بين استيعاب ما توصَّل إليه الفكر الغربي من تفسير الحضارة وعوامل قيامها وسقوطها وبين العقلية الإسلامية التي تستمدُّ نبعها الصافي من الأصول الإسلامية الأساسية.
تُوفِّي مالك في الـ31 من أكتوبر 1973 بعد نضال فكري أنتج خلاله ما يناهز ثمانين مؤلفًا بالعربية والفرنسية؛ منها: “الفكرة الأفريقية الآسيوية”، و”تأمُّلات في المجتمع العربي”، و”فكرة كومنولث إسلامي”، و”إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي”، و”المسلم في علم الاقتصاد”.