العقيدة الرقْمية
العقيدة الرقْمية
هل تخيلت يومًا أن تُصبح التكنولوجيا عقيدة يَنتسب إليها البشر يومًا ما؟
زار هذا التخيل مُخيلة بعض العلماء منذ عام 1991م حينما بدأت شبكة الإنترنت الزحف خارج حدود الجامعات والمؤسسات الأمنية والعسكرية، مما شكل خوفًا حقيقيًّا من تحول التكنولوجيا إلى عقيدة، وقد أَفرد الكاتب الأمريكي “نِيلْ بُوسْتِمَانْ” كتابًا يُوضح فيه هذا الخوف بعنوان “تِكْنُوبُولِس: استسلام الثقافة للتكنولوجيا”، ويُؤكد بوستمان أنه ليس ضد التقدم التكنولوجي وإنما يخاف الغرور في هذا المجال مما يؤدي إلى تقديس التكنولوجيا وتحويلها إلى عقيدة وغاية لذاتها.
وهذه الرغبة في تحويل التكنولوجيا إلى عقيدة موجودة في فيسبوك، ففي خريف 2006م أنشأ المبرمجون تطبيقًا أطلقوا عليه “الحسابات الخفية”، يعمل على التعرف على وجوه الأشخاص الذين لا يمتلكون حسابات على فيسبوك، من خلال الصور التي ينشرها أصدقاؤهم على صفحاتهم، وينشئ التطبيق صفحات لهم حتى تكون جاهزة بسرعة في حال رغبتهم في استخدام فيسبوك يومًا ما.
وهذه العقيدة الرقْمية تعتمد بطبيعتها على إبراز الدور الخطير الذي تلعبه حكمة الجماهير، فالجمهور له الحق في الحكم على المعرفة، “هذا جيد وهذا غير جيد”، المحتوى الرائج والمقبول شعبيًّا -وإن كان مجرد شائعات ومعلومات مغلوطة- محتوًى جيد، فالكثرة هنا تغلب الجودة والحقيقة.
ولم يتوقف الأمر على تحويل التكنولوجيا إلى عقيدة، بل تخطى ذلك بتحويل الشعائر والممارسات الدينية إلى ممارسات تكنولوجية تُحقق ربحًا لفيسبوك وللمؤسسات الدينية، وتلبي احتياجات نفسية لدى المستخدمين، ففي عام 2020م وبعدما ضرب وباء كورونا العالم، لاحظ القائمون على فيسبوك زيادة في المحتوى الديني وخصوصًا داخل الولايات المتحدة الأمريكية، فبدؤوا العمل على تنفيذ تطبيق “الصلاة”، وفي عام 2021م أُقِيمَت أول “قمة إيمان افتراضية” لمجموعة من رجال الدين في بعض الطوائف المسيحية، بعد أن أتاحت الشركة تطبيق “الصلاة” للمستخدمين في الولايات المتحدة الأمريكية ليمكنهم من طلب دعوات خاصة وحصرية مقابل عشرة دولارات للخدمة.
الفكرة من كتاب برج مغيزل: مواقع التواصل الاجتماعي ومواسم الونس والإدمان والهجرة
إن رغبة الإنسان في أن يتواصل مع الآخرين وأن يتفاعلوا معه قوية وقديمة، وقد بدأت هذه الرغبة منذ أكثر من 400 ألف عام حينما كان الإنسان يجتمع مع أهله حول نار الموقد يسرد القصص والحكايات، وتشكلت من هنا رغبته في البوح والوَنَس، وقد علمت الشركات التي أنشأت مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة أن لهذه الرغبة أثر الإدمان فاستغلتها، ومن وقتها تحول التاريخ، فصارت السلطة ولأول مرة بيد مجموعة قليلة من الأفراد، وصار العالم في حالة من السيولة المُصاحبة لعالم قديم يريد أن يبقى وعالم جديد يُولد ليدافع عن حقوقه.
مؤلف كتاب برج مغيزل: مواقع التواصل الاجتماعي ومواسم الونس والإدمان والهجرة
خالد الغمري: أستاذ مساعد اللُّغويات الحاسوبية بكلية الألسن بجامعة عين شمس، حاصل على الدكتوراه من جامعة إنديانا بالولايات المتحدة الأمريكية، شارك في تأسيس “مرصد المحتوى العربي على شبكة الإنترنت” التابع لـ”مؤسسة الفِكر العربي”، و”منتدى وسط غرب أمريكا للغويات الحاسوبية”.
له عدد من المقالات التي نُشرَت بجريدة الأهرام، وتناولت الحديث عن الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وتكنولوجيا المعلومات وأثرها في الثقافة والمعرفة والمجتمع والسياسة، كما قدم عديدًا من الأبحاث حول المعالجة الآلية للغة العربية والمحتوى الرقْمي العربي، وألّف كتاب “نبوءة آمون: موجز تاريخ الإنترنت”.