الطموح المسموم
الطموح المسموم
إن سألناك قارئنا العزيز أن تصف ما تراه عيناك فماذا ستقول؟ ربما تصف أشخاصًا أو أشياء تحيط بك، لكن مع تعدد المظاهر وتكاثر الملهيات فقد تغفل عن وصف نفسك، بل ربما ستنسى أن تنظر إلى ما يقع داخلك بوصفه عالمًا آخر يستحق العناية، وذلك مربط الفرس، فالاهتمام بالنفس هو “بداية كل المعارف”، وأولى الأولويات اللازمة لتكون قادرًا على استشعار الرضا والاستعداد لمواجهة العالم الخارجي، ولتحقيق ذلك عليك البدء بالكف عن الطموح والركض وراء الإنجازات، وعلى غرابة تلك الجملة فالكاتب حقًّا قد عدَّها مسببات أساسية للعداء مع النفس، فتراك تضع معايير مرتفعة، وتستمر بالكدح والعمل في دوائر لا تنتهي لتحقيق ذاتك أمام الناس، مما يخلق بيئة تنافسية بحتة، الهدف فيها تحقيق النجاح مهما كان الثمن، ومهما تطلَّب من وسائل شرعية وغير شرعية، فبمجرد تحقيقه ستقبل كل التصرفات غير المقبولة أمام النتيجة، وتهدم حينها المعايير الحقيقية.
مع الوقت ستتشكَّل في نفسك مشاعر سلبية هدامة، تشعرك بالدونية وتنتقص من قدرك وتضعك في خانة المقصِّرين لأنك في مقارنة دائمة بنماذج أخرى، وفي صراع مع تحقيق ما فرضه الآخرون عليك من مثل عليا تصل إلى الكمال لا يمكن تحقيقها أساسًا، وتلك فكرة متأصِّلة نتجت عن وسائل التعليم السامة وأسلوب الآباء الخاطئ حين يقولون لابنهم: “أثبت أن لديك بعض القيمة”، فضلًا عن كلام القادة والأفراد في المجتمع من حولك، الذين رهنوا الوجود بتحقيق شيء ما، واختصروا قيمة الفرد في معايير وضعوها بدلًا من إعطائه قدره لأنه هو كما هو، لأنه موجود بشخصه بيننا.
كلما استشعرت قيمتك وتقبَّلتها بعيوبها بعيدًا عن تحصيل التقدير من أعين الناس، استطعت تلقائيًّا تقدير من حولك وتقبُّلهم كما هم، بينما احتفاظك بنظرتك السلبية ستنعكس على كل شيء حولك بشكل أكثر حدة، ثم ستجد نفسك ذا موقف رافض، تكره الحياة وتعيش في الظلام، وتتصيَّد أخطاء الآخرين وتهوِّل من قدرها، لأن عيوبهم هي ذاتها الموجودة داخلك، فنظرتك إليهم إذًا نظرة انتقامية لكل ما تولَّد في نفسك من مشاعر متراكمة، وستستمر تلك السلبية في النمو جيلًا بعد جيل.
الفكرة من كتاب التأمل.. لماذا نتأمل؟ بل لمَ لا نتأمل؟
في مطلع الكتاب يقول جون أندروز الطبيب الشخصي لأوشو والذي رافقه حتى مماته:
“لقد أظهرت التجارب الأخرى أنك إذا تصنَّعت وجهًا تعلوه علامات الأسى لمدة ثلاثة أيام، تستطيع أن تجعل نفسك مكتئبًا تمامًا، إننا في جوهرنا ظاهرة خلق ذاتي”.
بينما تمضي الحياة تستمر عقولنا بالتشكُّل، وتتراكم فينا أحداث ومعتقدات تعيد تهيئتنا تدريجيًّا في كل الجوانب دون أن نلمحها، ولا يمر الوقت حتى نرى آثارًا سلبية نعتبرها مجهولة المصدر، لا نلبث أن نلوم عليها آباءنا أو مجتمعاتنا أو نلقيها على حادثة أليمة واجهتنا سابقًا، والحقيقة أن ما فعلناه هو التنصُّل من مسؤوليتنا تجاه عالمنا الداخلي، الذي انصرفنا عنه مركِّزين اهتمامنا على الأحداث الخارجية فقط، متناسين أننا نتاج أنفسنا، نبرمج دماغنا على افتراضات واستنتاجات فنتعايش معها ونبرهن على صحتها دون إدراك منا بحماقة ما نفعل، لذا جرت الكثير من الأبحاث في هذا السياق النفسي، وخلص الكثير منها إلى جدوى التأمل كحل علاجي حتى للوسواس القهري، فالتأمل نشاط تنساب الروح فيه متحررة عن حدود الجسد والمكان، لتستغرق في مراقبة الأمور ووضعها في مكانها المناسب، وهدف الكتاب هنا هو استعراض تصرفاتنا السلبية وكل ما ينغِّص صفو نفوسنا، للتعامل مع داخلنا والتحكم فيما نواجهه بعقلانية تضع الأمور في موضعها الصحيح للوصول إلى السلام النفسي بطرق بسيطة يسهل اتباعها.
مؤلف كتاب التأمل.. لماذا نتأمل؟ بل لمَ لا نتأمل؟
أوشو : فيلسوف هندي من مواليد عام 1931، اتخذ لنفسه عددًا من الأسماء المختلفة خلال حياته و”أوشو” هو الاسم البوذي الذي اعتمده منذ عام 1980، درس الفلسفة في الجامعة ثم التحق بالعمل فيها كمدرس عام 1957 بعد حصوله على الماجستير، خلال الستينيات تفرغ للتعليم الروحي وابتكر منهجًا يعتمد على التصوف والتقشُّف والتأمُّل والبحث عن الذات والحرية الجنسية في آن واحد، فاتبع فلسفته الكثيرون الذين تجمهروا حوله وجاؤوه من كل مكان، فضيَّقت السلطات الهندية النطاق عليه بمحاولة طعنه ومطالبته بالضرائب ثم منعت الناس من التوافد إليه، فارتحل إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليؤسِّس مجتمعًا خاصًّا مع أتباعه، لكن تصرُّفاتهم استفزَّت بلدية مدينة أوريجون، فوجَّهت إليه تهمًا كثيرة قضت بترحيله، ورفضت إحدى وعشرون دولة استقباله، فعاد إلى الهند وتوفي هناك عام 1990.
من أعماله:
التسامح.. رؤية جديدة تزهر الحياة.
الشجاعة.
معلومات عن المترجمين:
الدكتور محمد ياسر حسكي: مترجم وكاتب سوري الجنسية، درس في كلية الطاقة جامعة إركوتسك التقنية، وحاصل على الدكتوراه في الهندسة، كما أنه عضو الأكاديمية الدولية للسوجوك في الهند وعضو الأكاديمية الروسية للسوجوك، ومؤسس مدرسة الريكي: طاقة النور، له من المؤلفات كتاب: “الحب رواية عن التعلقات” بالاشتراك مع الكاتبة لينا مصطفى الزيبق، أما في الترجمة فله من الأعمال: “المركب الفارغ، لقاءات مع اللاشيء”، و”الدماغ الخارق”، وكتاب “أنا والرومي: السيرة الذاتية بقلم شمس الدين التبريزي” بالاشتراك مع المترجمة منال الخطيب وتحقيق: كارمن الشرباصي.
كارمن الشرباصي: شاركت الدكتور محمد ياسر حسكي في ترجمة عدد من الأعمال منها: “عملية الحضور: رحلة إلى داخل إدراك اللحظة الحالية”، و”التحول التانتري”، وكتاب “اللطف وآثاره الجانبية الخمسة”.