الصهيونية داخل السياق الحضاري الغربي

الصهيونية داخل السياق الحضاري الغربي
لا يمكن فهم الصهيونية جيّدًا إلا بدراسة السياق الغربي الحضاري، لأنها أحد إفرازاته العلمانية، التي تنظر إلى العالم والبشر بوصفهم مادة يمكن استعمالها وتوظيفها، ولهذا بَنَت القوى الاستعمارية قدراتها العسكرية والسياسية للهيمنة على العالم من خلال التحركات الإمبريالية، التي أسسها المفكرون العلمانيون على أسس علمية، لدعم نظرتهم العنصرية التصنيفية تجاه البشر، بهدف تبرير وشرعنة جميع الإفرازات العنصرية للحضارة الغربية، وهنا كانت الصهيونية إحدى النتائج وليست استثناءً.

عانى اليهود في المجتمعات الأوربية من وضعهم داخل السياق الحضاري الغربي، الذي يَنظر إليهم بوصفهم جماعة وظيفية، أي مجموعة من البشر تُسند إليهم وظيفة ما، يكتسبون منها قيمتهم وتعريفهم، فدائمًا ما كانت الدول تُوكل إليهم الوظائف المالية كالتجارة والربا، ونتيجةً لذلك تهمّش وضعهم في المجتمعات الإقطاعية، وعاشوا في عزلة واغتراب داخل الجيتوهات| Ghetto، وتحت تهديد فقدان وظيفتهم بسبب موجة التحديث، التي راكمت فائضًا بشريًّا من اليهود، نظرت إليهم الحضارة الغربية على أنهم مادة استعمالية، فبحثت عن حل للتخلص من عبئهم، فاستوعبهم الحل الإمبريالي.
لتبرير عنصرية الحل الغربي وفكره وإفرازاته، نجد أنه يقف على قدمين، وهما النيتشوية والداروينية، تختار الداروينية القوة شرطًا للبقاء، فالأقوى هو الذي ينجو ويستمر في هذا العالم، ولا مكان للضعفاء، بينما ترى النيتشوية أن الأخلاق تدور حول القوة، فهي وحدها تملك صلاحية تحديد ما هو الفعل الأخلاقي وحدوده، وبالطبع يؤسس علميًّا لتلك النظرة، لتظهر اعتذاريات مثل الجنس الأفضل والأرقى الذي يحمل واجبًا أخلاقيًّا تجاه العالم المتخلف.
تقسّم الحركات العنصرية الجماعات الوظيفية -مثل اليهود- قسمين، القسم الأول هو القسم النافع والمنتج وهؤلاء هم وقود أعمال السخرة، أما القسم الثاني فهو العاجزون وغير النافعين، ومكانهم معسكرات الإبادة، واتبع ذلك المنهج النازية والفاشية، واتفقت معهم الصهيونية إلا أنها رأت أن الحل هو تحويل ذلك الفائض غير النافع من اليهود إلى مادة استعمالية نافعة، يستخدمها الغرب حليفًا استراتيجيًّا مستقبليًّا، فيزرعها ككيان استعماري استيطاني إحلالي في بقعة جغرافية، ليتحول اليهود فيها إلى مستوطنين نافعين، وينتقلوا من الجماعة الوظيفية إلى الدولة الوظيفية.
الفكرة من كتاب تاريخ الفكر الصهيوني.. جذوره ومساره وأزمته
لفهم الصهيونية بمدى عمقها وتعقيداتها، يتعيّن علينا أن نتجاوز النظرة السطحية ونستقصي في جذورها الفكرية وتطورها عبر الزمن، ونتوقف عن الاستناد إلى مقولات غربية، لأنها ليست كافية لإنارة فهمنا لهذه الظاهرة التاريخية والسياسية المعقدة، إذ نحتاج إلى بناء نموذج تفسيري مستقل يعتمد على البحث العلمي والنظرة الشاملة، بهدف تجاوز الديباجات التي تسيطر على النقاشات وتحجب الحقائق.
يقدم لنا الدكتور عبدالوهاب المسيري مفاتح تفسيرية تساعدنا على استكشاف جذور الصهيونية وتطورها، يتساءل عن كيفية نشأة هذه الحركة والدوافع وراء وجودها، مسلطًا الضوء على السياق الحضاري الذي نشأت فيه، وكيف أسهم المفكرون الصهيونيون في تطوير استراتيجياتهم عبر المراحل المتعددة التي مرت بها الحركة، ويركز على الدور الذي لعبته أوربا في تنفيذ المشروع الصهيوني ورعايته، ثم يعرض لنا الأسباب والملابسات التي دفعت أوربا إلى تبني هذا المشروع وكيف تطوّر هذا التفاعل في ظل التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها المنطقة، مما يمكننا في نهاية المطاف من تطوير أسس قوية لمقاومة المشروع الصهيوني وفهم أعماق تأثيره.
مؤلف كتاب تاريخ الفكر الصهيوني.. جذوره ومساره وأزمته
عبد الوهاب المسيري: مفكر وعالم اجتماع مصري، ولد في دمنهور عام 1938م، تخصص في دراسة اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة الإسكندرية حتى حصل على البكالوريوس في عام 1959م، ثم نال الماجستير في الأدب الإنجليزي المقارن من جامعة كولومبيا بنيويورك | Columbia University in New York في عام 1964م، ثم حصل على الدكتوراه من جامعة رتجرز بنيو جيرسي | Rutgers University in New Jersey في عام 1969م، وعاد إلى الوطن العربي ليدرّس في عديد من الجامعات في مصر والكويت والسعودية، بالإضافة إلى توليه مناصب ثقافية، وانخراطه في العمل السياسي في مصر.
يُعد من أهم المساهمين في نقد الحداثة الغربية، كما أثرى التحليلات والدراسات العربية الخاصة بدراسة اليهود والصهيونية، ومن أهم أعماله:
مقدمة لدراسة الصراع العربي الإسرائيلي.
موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية.
الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان.
العالم من منظور غربي.
الأيديولوجية الصهيونية.
الفردوس الأرضي.