الصلاحية والفاعلية
الصلاحية والفاعلية
بعدما انتقلت مساحة العمل المجتمعي من ميدان الجهاد إلى السعي المركَّز والمحموم للحصول على السلطة والهيمنة، كان يتأكَّد أنه وإن مارست الحركات الرفض النظري- ذا الأصل الشرعي- للتصوُّر الحزبي والتنظيمي، فإنها كانت تقبله بصورة أكثر فجاجة في تقبُّلها لصورة الدولة القومية الحديثة ذاتها، فهي لديها تحفظ على اتجاه الممارسة (أي كونه مع الدولة أم ضد الدولة)، لكنها على نحو غير واعٍ تقبل أصل الممارسة كشكل وحيد للحصول على نتيجة أو لتقديم البديل، ومن هنا بدأت تتشكَّل أزمة في الوعي، وأخرى فيما بين الوعي والممارسة، وثالثة في الممارسة ذاتها.
ومع الفشل الذي منيت به الحركات في تقديم البديل الذي كانت تعد به، وما أصابها بدأ الشك حيال فاعلية انتهاج السياسة لاستعادة المفاهيم، وحيال فاعلية التنظيم الجماعي أو ما كما يسميه المؤلف “نزع القداسة عن الالتزام التنظيمي”، وظلَّت ثنائية الصلاحية والذاتية معضلة المسلمين المعاصرين، ففي الوقت الذي يؤمن فيه المسلم المعاصر بصلاحية الإسلام في ذاته، إلا أنه لا يستطيع الإجابة عن استشكال الفاعلية، الذي ما فتئ الغرب يستذله به في صورة المعضلة التي لا تنتهي.
ومن هنا وتحت مبدأ “تعلَّم ولو من عدوك” بدأ استيراد نماذج الثقافة الغربية وأدبياتها بصورة كبيرة، وبدأت مرحلة من السيولة في المفاهيم الكبرى مثل الجهاد والخلافة والدعوة، وبدأت مرحلة ما بعد النضالية (ما بعد الحداثة) أو كما يسميها المؤلف “إسلام السوق”.
الفكرة من كتاب إسلام السوق
في القرون الماضية كان الإسلام العامل المحدِّد لكل المجالات على الأراضي الإسلامية، وهو المؤثر فيها باعتبارها خاضعة له لا العكس، وعلى الرغم من الاتفاق على أن الإسلام واحد لا يتبدَّل ولا يتغيَّر باعتباره شريعة إلهية، فقد بدأت تظهر بعض الاختلافات في فَهمه وفهم تأويلاته وتنزيلها على أرض الواقع فيما يُعرف بالتدين، نتيجة لاختلاف الثقافات ومدى قربها وبعدها عن أرض المنبع، لكن ظل الإسلام العامل الحاسم في تنظيم المجتمع وإدارته وسن قوانينه واتباع أحكامه، وهو العامل الحاسم في إضفاء الشرعية على الحكم السياسي للبلاد واعتبارها “دولة إسلامية” إن صح التعبير عن ذلك بمفهوم “دولة”، وهو ما يسلِّط هذا الكتاب الضوء عليه.
مؤلف كتاب إسلام السوق
باتريك هايني Patrick Haenni: باحث سويسري في العلوم الاجتماعية، وباحث سابق في مركز الدراسات والتوثيق القانوني(CEDJ) بالقاهرة، وباحث سابق في مرصد الأديان بسويسرا، وعمل بمنصب مستشار شؤون الشرق الأوسط في مركز (الحوار الإنساني)، وصدر له كتاب “ما بعد الإسلام السياسي” بالاشتراك مع أوليفييه روا، وكتابا “نظام الأعيان”، و”معارك حول الإسلام في الغرب”.
يمثل باتريك هايني جيلًا جديدًا من أجيال الإسلامولوجيين (المهتمين بالظاهرة الإسلامية)، وهو جيل يحرص أشد الحرص على الموضوعية العلمية والدراسة الوصفية والتحليلية البعيدة عن أي توظيف سياسي، وقد قضى وقتًا طويلًا في مصر وأقطار أخرى من العالم الإسلامي، وله صلات علمية وطيدة مع بعض التيارات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي، فعاش حينًا من الدهر في القاهرة دارسًا، وتعلم اللغة العربية وتعرَّف من كثب على الإسلاميين، وتعرَّف أيضًا على الإسلاميين الإندونيسيين والأتراك.