الشوارع والذاكرة
الشوارع والذاكرة
إن المصدر الرئيس الذي يغذِّي هذا النوع من النسيان المتعلِّق بالذاكرة المكانية هو “فصل الحياة الاجتماعية عن طابعها المحلي وعن الأبعاد البشرية”، فنجد المدن الكبرى التي يصعب ويتعذَّر تذكُّر ما فيها من أماكن لكبر حجمها واتساعها، والنزعة الاستهلاكية التي أرستها الرأسمالية (فاستهلاك من أجل الإنتاج وإنتاج من إجل الاستهلاك)، إلى جانب المباني والمنشآت التي بنيت لا لتبقى بل لتزول، وكذلك انعدام الشوارع التي يسير فيها الإنسان على أقدامه حتى أصبحت الشوارع تتسع من أجل حركة المركبات وحركة السيارات فقط!
إن أهم الشوارع وأفضلها تلك التي تسمح للمارة بالسير فيها بسرعات متفاوتة، حيث تترك فيك ذكريات محفوظة وممتدة، فالشوارع تعد من أهم الأشياء التي تعتمد عليها الذاكرة المكانية، فأنت عندما تفكر في إحدى المدن -سواء المدينة التي تعيش فيها حاليًّا أو مدينة أخرى قمت بزيارتها- فإن خيالك وتصوراتك عن تلك المدينة سيكون تجاه أحد الشوارع التي تركت في نفسك انطباعًا قويًّا ومميزًا، حيث قد تجول في نفسك إحدى الذكريات المرتبطة بهذا الشارع الموجود في تلك المدينة، أو لكونه شارعًا فريدًا رائع الجمال يقف كحد فاصل، فيساعدك على تمييز بقية الأماكن، ومن تلك الشوارع “شارع المعز لدين الله” في مدينة القاهرة، فهذا الشارع بلا شك يحكي “سيرة مكانية” حيث تشكِّل نوعية الأبنية التي فيه طرازًا فريدًا في العمارة، كما يحكي كل بناء وكل حجر فيه قصة وحكاية، حيث تستدعي الأماكن هناك الأحداث والأشخاص والارتباطات التاريخية والأفعال والأنشطة الاجتماعية، فتلك “البنايات لا تخصُّ الحاضر، ولا الفترة الزمنية التي تخصُّ البناء وحسب، بل هي فترة ممتدة تعود إلى الماضي، لكنها تأخذ بهذا الماضي إلى الحاضر”.
الفكرة من كتاب كيف يغزو النسيان ذاكرة الحداثة؟
لقد أضحى النسيان سمة أساسية من سمات الحداثة، حيث أصبحت المجتمعات تفقد تدريجيًّا ذاكرتها وعلاقتها بالماضي كنوع من أنواع فقدان الذاكرة الجماعي، مما ينتج عن ذلك من تدمير الروابط التي تقوم بوصل الإنسان المعاصر بماضيه، وبالتالي فصله عن جذوزه الممتدة إلى الأجيال السابقة عليه، حيث أصبح الجيل الصاعد من الجنسين (الرجال والنساء) يفتقر إلى تلك العلاقة العضوية التي تربطه بالماضي، تلك العلاقة التي خلقت وأوجدت الحاضر الذي يعيشه الآن، فنجد أن الإنسان المعاصر بسبب السيل الهادر من المعلوماتية لم يعد لديه قدرة على التذكر أو الوعي التاريخي، وأصبح يمتلك ذاكرة السمك.
مؤلف كتاب كيف يغزو النسيان ذاكرة الحداثة؟
بول كونرتون ، يشعل وظيفة باحث مشارك في قسم الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة كمبردج بالمملكة المتحدة، كما أنه زميل شرف بمعهد الدراسات الألمانية والرومانسية بجامعة لندن، من كتبه: “كيف يغزو النسيان ذاكرة الحداثة؟”.
معلومات عن المترجم:
علي فرغلي، هو عضو هيئة التدريس بكلية الآداب قسم علم الاجتماع بجامعة عين شمس، كما شغل منصب النائب الأسبق لعميد كلية الآداب بجامعة تعز باليمن، له عدد من الكتب التي قام بتأليفها، مثل: “الدولة والطبقات الاجتماعية في مصر”، و”العولمة والهوية الثقافية”، ومن الكتب المترجمة: “النظرية الاجتماعية والواقع الإنساني”.