السيطرة على الجسد
السيطرة على الجسد
تنتهي عملية الهندسة الاجتماعية هذه إلى السيطرة المادية على الإنسان؛ وبمعنى أكثر وضوحًا تجعل الإنسان مكشوفًا أمام الدولة (السلطة)، فقد تم تسطيح المجتمع وإعادة رسم معماريته على النسق الأوروبي الحديث، وتمت تربية الفرد وتنشئته بما يتفق مع هذه الهندسة، بحيث يصبح الفرد سهلًا مسلمًا بالطاعة للسلطة من ناحية، ومكشوفًا لعين البوليس- ممثل السلطة- من ناحية أخرى.
ويعبر عن هذا بشكل واضح وصريح، ما كتبه ضابط عسكري فرنسي في الجزائر في تقرير عن انتفاضة أخمدتها قواته عامي (1845- 1846) يقول: “إن هناك طريقتين لتأسيس سلطة سياسية على مجتمع ما؛ طريقة القمع وطريقة التربية، والأخيرة بعيدة المدى وتعمل على العقل، أما الأولى فتعمل على الجسد ولا بدَّ أن تأتي أولًا”، هكذا يتضح أن السيطرة على العقل هي الهدف الثاني بعد السيطرة على الجسد.
الفكرة من كتاب استعمار مصر
يرى الكاتب أن الدولة الحديثة التي نشأت في مصر على يد محمد علي باشا -وبمعاونة أوروبية (إنجليزية وفرنسية)- إنما نشأت على شكل سجن بانوبتيكوني بالأساس، وسجن البانوبتيكون هذا هو نموذج رسمه الفيلسوف القانوني الإنجليزي جيرمي بنتام؛ وهو عبارة عن “زنازين ذات شبابيك واسعة على شكل حلقة دائرية يتوسَّطها برج مراقبة” تتيح هذه الزنازين للحارس القابع في برج المراقبة أن يرى النزلاء، ولا يمكن للسجين أن يرى الحارس، ومن ثم ومع مرور الوقت يستبطن السجين نظرة الحارس ويشعر دائمًا أنه مراقب، وأن ثمة من يترصَّده.
وعلى هذا يتفق ميتشل مع الفيلسوف الفرنسي فوكو في أن الدولة الحديثة قد بنيت على شكل سجن بانوبتيكوني ضخم، بحيث يصبح الشعب سجين الدولة، والدولة هي الحارس القابع في البرج، ويستلزم بناء هذا السجن عملية تنظيم وتنشئة وتربية اجتماعية واسعة النطاق؛ تعمد إلى تغيير سلوك الشعب ونمط حياته بما يتفق وبناء الدولة الحديثة، وهكذا يتناول هذا الكتاب عملية الهندسة الاجتماعية التي صاحبت بناء الدولة الحديثة التي فتحت الطريق أمام الاستعمار الإنجليزي؛ فإن هذه العملية قد تمت أساسًا بأعين وأيدٍ أوروبية ومباركة باشاوية.
مؤلف كتاب استعمار مصر
تيموثى ميتشل Timothy Mitchell: عالم سياسة بريطاني، وأستاذ دراسات الشرق الأوسط في جامعة كولومبيا، وأستاذ سابق للعلوم السياسية في جامعة نيويورك.
له مؤلفات عديدة منها: “الديمقراطية والدولة في العالم العربي”، و”دراستان حول التراث والحداثة”، و”ديمقراطية الكربون: السلطة السياسية في عصر النفط”.