السقا
بعد صمودٍ دنا من السبعين عامًا مات آخر السقائين ورحلت معه مهنة عمرها أكثر من ألف عام في مصر، توارثتها عائلات بعينها جيلًا بعد جيل، وأبرزها عائلة «منيعم» من مركز منفلوط بمحافظة أسيوط، تلك العائلة التي حافظت على مهنتها حتى عهد قريب، إذ ينتمي إليها السقا «عبد الحميد بكر محمد منيعم» آخر سقا في مصر، الذي توفي عام ٢٠٢٣م، وكان يأتي إلى القاهرة كل أربعاء ويعود إلى بلده يوم السبت، فيقضي أيامه بالقاهرة متجولًا بين مساجدها ليرويَ عطش الحاضرين من ماء قربته المنكهة بالورد والمسك، وبرغم معارضة أبيه لرغبته في اتباع خطى جده السقا، أصر عبد الحميد على رأيه مؤكدًا قدرته على تحمل مسؤولية عمله ورغبته في الحفاظ على تراث عائلة السقائين الشهيرة وهو العهد الذي صانه حتى وافته المنية، وكان لحذر أبيه ما يبرره، فمهنة السقا ليست سهلة على الإطلاق
بل كان المتقدم إليها يخضع لاختبار يحمل فيه كيسًا من الرمال يزن ٦٧ رطلًا لمدة ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ دون نوم أو جلوس، ويُختَبَرُ صدقه ونظافته وأمانته لأنه سيدخل إلى البيوت، وعندما يجتاز المتقدم الاختبارات السابقة يتسلم رخصة تسيير واعتماد من الإدارة المحلية التابعة للنظارة الداخلية، وتُحدَّد في هذه الرخصة بيانات السقا والأزقة والحارات المسموح له بخدمتها.
وبحلول عام ١٨٦٥م هدد شبح الاندثار مهنة السقا عندما أُنشئت أول محطة لضخ المياه في القاهرة على يد “الخديو إسماعيل”، وظل أصحاب المهنة يقاومون الزمن حتى مات آخرهم، الذي ظل يعملها حتى زمن قريب محبةً في مهنته وليس لحاجة الناس إليها، فاليوم لا يحتاج الناس إلى الماء الذي كان يزودهم به السقا، وإنما يفتقدون -لا محالة- تلك البهجة التي كانت تصحب قدومه وجولاته عندما كان يُحتَفى بقدومه ويسارع الناس إلى شرب الماء من يده.
الفكرة من كتاب حاجات قديمة للبيع
مهما كُتب عن التراث المصري ومخزونه الثقافي والشعبي فلن يُعبِّر المنتمون إلى ثقافات مختلفة عنه مثلما تفعل الكتابة المحلية، ومن هنا تأتي أهمية القراءة عن مجتمع ما وفهمه من منظور شخصي، فهي القراءة الأجدر بالوصول إلى من يبحث عن خيوط الحكايات التي نسجت التراث الشعبي، وهذا الكتاب بمنزلة رحلة بين مهن للمصريين أصبحت الآن مجرد لمحات من الماضي، خَفَتَت أهميتها مع ذهاب زمانها ومعاصريها، واستحداث مهن وأعمال ومتع جديدة تلائم تغير الزمان، سنطلع على بعض هذه المهن وطبيعة نشأتها وأهميتها وكيف اختفت أو أضحت على وشك الاختفاء.
مؤلف كتاب حاجات قديمة للبيع
منى عبد الوهاب: ولدت في عام ١٩٩٨م، وتخرجت في قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب، تعمل حاليًّا مسؤولة العلاقات العامة والإعلام بمؤسسة مزيج الثقافية، وهي مقدمة البرنامج الثقافي «سين وميم»، وتدور اهتماماتها في فلك موضوعات الأدب وتاريخ الشارع المصري وقضايا المرأة في المجتمع.