الرِّقابة الذاتية
الرِّقابة الذاتية
اليوم حينما نتحدث عن مواقع التواصل الاجتماعي، نجد أن فيسبوك يحتل المركز الأول في امتلاكه للمستخدمين، إذ يقترب عدد مستخدميه من ثُلث سكان الكرة الأرضية، فجميع الأجيال من كل الفئات والطبقات الاجتماعية والاقتصادية وحتى الحكومات موجودة عليه، ولا توجد مؤسسة أو وِزارة أو صحيفة في العالم إلا ولها صفحة على الموقع.
والمعلومات لدى إدارة فيسبوك عن هذا الجمع الغفير من المستخدمين لا تقتصر على صورهم وعناوينهم وعلاقاتهم، بل هي نسخة رقْمية تحوي كثيرًا من التفاصيل عن حياتهم، ولا يُقتصَر على هذا بل إن الموقع يحتفظ بنسخة من الرسائل التي نحذفها بعد نشرها، وكذلك الرسائل التي غيرنا رأينا فيها فحذفناها قبل أن ننشرها، وعللت الشركة فعلها هذا الأمر بدراسة “الرِّقابة الذاتية” التي يفرضها مستخدم الموقع على نفسه في ما يجب أو لا يجب نشره وأسباب ذلك.
وقد أظهرت الأبحاث وجود خمسة أسباب لقيامنا بالرقابة الذاتية في أثناء استخدام موقع فيسبوك، وهي: السبب الأول: أننا نحاول بقدر الإمكان عدم نشر رسائل يمكن أن تثير جدلًا أو خلافًا بيننا وبين الأصدقاء فنحذفها حتى لا يطول هذا الجدل، والسبب الثاني: أننا لا نرغب في إزعاج الآخرين بنشر أمور تصدمهم بما يؤمنون به أو ينتمون إليه، فنميل إلى نشر رسائل تُرضي القاسم المشترك بين الأصدقاء مما يزيد من مقدار التفاعل مع ما ننشره، أما السبب الثالث: فهو الخوف من نشر شيء قد يراه الأصدقاء مملًّا فلا يلقى إعجابًا أو تفاعلًا كافيًا وهذا شيء مُؤلم، فنُدرة التفاعل أو غيابه تُعتبر نوعًا من العقاب الاجتماعي، وجاء السبب الرابع مُتعلقًا بحرصنا على مكانتنا الاجتماعية، إذ نتراجع عن نشر رسالة ما عندما نشعر أنها لا تليق بمكانتنا ولا بصورتنا في أذهان الآخرين ممن يتابعوننا، أما السبب الخامس والأخير: فهو أن الحذف قد يحدث بشكل تِقْنِيّ بحت لا دخل لنا فيه، كانقطاع الاتصال بالإنترنت في أثناء الكتابة أو خلل في التطبيق.
وهذه المعلومات عن الرِّقابة الذاتية التي يسعى فيسبوك إلى الوصول إليها، تمكنه من إعداد حسابٍ نفسي تفصيلي لنا، يمكن من خلالها التأثير في قراراتنا وسلوكنا لأهداف إعلانية وتسويقية بحتة.
الفكرة من كتاب برج مغيزل: مواقع التواصل الاجتماعي ومواسم الونس والإدمان والهجرة
إن رغبة الإنسان في أن يتواصل مع الآخرين وأن يتفاعلوا معه قوية وقديمة، وقد بدأت هذه الرغبة منذ أكثر من 400 ألف عام حينما كان الإنسان يجتمع مع أهله حول نار الموقد يسرد القصص والحكايات، وتشكلت من هنا رغبته في البوح والوَنَس، وقد علمت الشركات التي أنشأت مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة أن لهذه الرغبة أثر الإدمان فاستغلتها، ومن وقتها تحول التاريخ، فصارت السلطة ولأول مرة بيد مجموعة قليلة من الأفراد، وصار العالم في حالة من السيولة المُصاحبة لعالم قديم يريد أن يبقى وعالم جديد يُولد ليدافع عن حقوقه.
مؤلف كتاب برج مغيزل: مواقع التواصل الاجتماعي ومواسم الونس والإدمان والهجرة
خالد الغمري: أستاذ مساعد اللُّغويات الحاسوبية بكلية الألسن بجامعة عين شمس، حاصل على الدكتوراه من جامعة إنديانا بالولايات المتحدة الأمريكية، شارك في تأسيس “مرصد المحتوى العربي على شبكة الإنترنت” التابع لـ”مؤسسة الفِكر العربي”، و”منتدى وسط غرب أمريكا للغويات الحاسوبية”.
له عدد من المقالات التي نُشرَت بجريدة الأهرام، وتناولت الحديث عن الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وتكنولوجيا المعلومات وأثرها في الثقافة والمعرفة والمجتمع والسياسة، كما قدم عديدًا من الأبحاث حول المعالجة الآلية للغة العربية والمحتوى الرقْمي العربي، وألّف كتاب “نبوءة آمون: موجز تاريخ الإنترنت”.