الرحيم
كانت خشونة عمر غطاء لرحمته التي سرعان ما كانت تنكشف بمجرد الاقتراب منه، وهناك العديد من الدلائل التي تكشف عن رحمته، فعندما علم بإسلام أخته وزوجها وكان حينها من أشد أعداء الإسلام، ذهب إليها وضربها حتى أدمى وجهها، وانقضَّ على زوجها ولكنه سرعان ما رقَّ قلبه وندم على ذلك، ولم تنحصر رحمته على أخته، بل كان يحب أباه على الرغم من قسوته عليه، فظل يُقسم باسمه حتى نهاه الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك، وحبه لأخيه زيد كان حبًّا نادرًا، فمن شاء أن يُبكي عمر ذكر له اسم أخيه بعد مماته، وبالطبع قد يرحم الرجل أهل القرابة ويقسو على من سواهم ولكن عمر لم يكن كذلك، فعندما ذهب مع عبد الرحمن بن عوف لحراسة تجَّار من السرقة، سمع صوت طفل يصرخ، فذهب إلى أمه وطلب أن تُحسن إلى طفلها، فظل يسمع صوت الطفل طوال الليل، فظل يرجع إليها حتى علم أنها فطمته دون السن، فنادى في الناس ألا يعجِّلوا في الفطام.
وبقدر ما كان عمر رحيمًا، كان غيورًا، ولم يكن يغار من أحد، بل كان يغار على الدين، وعلى العرض، وعلى الحق، فكان يشير إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) بحجاب أمهات المؤمنين، وكان يصدُّ الغرباء عن جزيرة العرب، فكانت الغيرة بهدف الحماية، فهو رجل قوي، يؤمن بالحق، وإضافةً إلى ذلك كان يتمتَّع بالذكاء والفراسة، أي النظر الثاقب، فلم يكن محدود الفكر كما ذكر بعض المستشرقين، بل كان مُدركًا لنقائض الأخلاق وتقلُّبات النفوس، لذا وجَّه الناس إلى معرفة الشر لتجنُّب الوقوع فيه، وإلى البحث عن الأعذار والاحتراس من الناس بسوء الظن، والحذر من الإعجاب بالرأي، وكان معروفًا بمكاشفة الخبايا باستخدام الفراسة أو النظرة الثاقبة أو النظر البعيد، لكن المستشرقين لم يروا سوى مواقف لا يستقيم فيها سوى الحزم والجزم، وسلكها لعلمه أنه قادر على اختراق العقبات، فقد كان قويًّا بطبعه وقويًّا بإيمانه، صارمًا لا يدور حول الحقوق والأحكام.
الفكرة من كتاب عبقرية عمر
ما بين القاهرة والسودان ظل العقاد يجمع المصادر ليُهدينا هذا الكتاب الذي يدور حول صفات وأطوار شخصية تُعدُّ من أعظم الشخصيات الإسلامية، وهي شخصية الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، وقد عرض له خاطره النقد لكنه شعر بالحرج، فكيف يُحاسِب رجلًا كان أشد حسابًا لنفسه، فبعد تمحيص من العقاد وجد أن كل موضع نُقِد فيه عمر كان له حُجَّة قوية وإن أخطأه الصواب، وقد ذكر بعضها في خلال هذا الكتاب، فهنا لن نتعمَّق في سيرة عمر بن الخطاب، بل في صفاته وثقافته، وفي أطواره، قبل الإسلام وبعد الإسلام، وأثناء الحكم، وفي علاقته بالنبي(صلى الله عليه وسلم)، وأصحابه وأهل بيته.
مؤلف كتاب عبقرية عمر
عباس محمود العقاد: أديب مصري، وشاعر، ومؤرخ، وفيلسوف، وسياسي وصحفي، وُلد بمدينة أسوان عام 1889، واكتفى بالحصول على الشهادة الابتدائية، لكنه ظل يعكف على الكتب ويثقِّف نفسه بنفسه حتى وصلت مكتبته إلى أكثر من ثلاثين ألف كتاب، وقد التحق بالعديد من الوظائف الحكومية ولكنه لم يظل طويلًا في أيٍّ منها، لأنه كان يرى الوظيفة الحكومية سجنًا لأدبه، فاتجه بعد ذلك إلى الصحافة حيث التحق بجريدة الدستور، وأصدر جريدة الضياء، وعمل في أشهر الصحف آنذاك، وقد دخل في معارك مع كبار الأدباء والشعراء، وشارك في تأسيس مدرسة الديوان، كما شارك في معترك الحياة السياسية، فانضم إلى حزب الوفد، وهاجم الملك فاروق أثناء إعداد الدستور، فسُجِن لمدة تسعة أشهر، تعدَّت كتبه المائة، وأشهرها:
سلسلة العبقريات.
أنا.
سارة.
وحي الأربعين.
كما قام أيضًا بتأليف عدَّة قصائد، منها:
أصداء الشارع.
الآمال.
العقل والجنون.