الرحلة
عزم زكي مبارك على العودة إلى حبيبته “باريس” بعد مدة قضاها بعيدًا عنها، فكانت فرحته بذلك كفرحة طفل يخبر أهله عن سفر سعيد، وسرعان ما عاد إلى جادته فاستعدَّ للسفر وذهب إلى قرية “سنتريس” بالمنوفية حيث نشأ فودع الأهل والأحباب، وفي صباح السبت الأخير من يونيه سنة ١٩٣٠م ذهب إلى محطة “باب الحديد” (محطة رمسيس حاليًّا)، وودَّع القلة من الأصدقاء الذين انتظروه على الرغم من أنه انتظر غيرهم لم يأتوا، ثم توجَّه القطار إلى الإسكندرية حيث الباخرة التي سيركبها زكي مبارك في رحلته إلى باريس، ولما وصل بسلام الله أخذ أمتعته إلى مكانه في السفينة وكانت ساعة الغداء فذهب إلى المائدة غير آبه بتوديع الإسكندرية، وفي ذلك يقول: “ثم جاءت ساعة الغداء فشُغِلنا عن توديع الإسكندرية، إن كانت تحتاج منا إلى توديع، وهيهات! فقد تمادت بنا مظالم الحياة وكدنا لا نعرف ما الوطن وما فراقه؛ إذ كنا في بلادنا غرباء، والمظلوم في وطنه غريب”، وعلى المائدة أراد الجلوس في مكان ما فأخبره زميل فرنسي على متن الباخرة أن المكان مشغول فاضطر إلى الجلوس بين عجوزين ورجل مصري غير راضٍ عن ذلك.
ومن مشاهد الباخرة التي مرَّت بزكي مبارك أنه رأى راهبًا لا يتورَّع عن اصطحاب الفتيات وشرب النبيذ تحت ستار من التقى والعفاف، وهو على ذلك لا تُنزَع عنه “قداسته”؛ الأمر الذي أنِفه زكي مبارك معللًا أن الرذيلة تحت ستار الفضيلة ضعف وجبن من مرتكبها أن يواجه الجمهور بما يرغب فيه حقًّا، أما القوي فلا يلجأ إلى مثل تلك الحيل.
أما في باريس وبعد أن استقرَّ كاتبنا فيها ورأى من انحرافات بعض المسافرين إليها من القُطر العربي مما يعدها أصحابها “تجارب” تعلِّم الإنسان؛ فإن صاحبنا يعدُّها غير ذلك إذ يتساءل: ما الفائدة من التجارب إن لم تردعنا عن اتباع الشهوات؟ وهل للتجربة السيئة نفع إلا ما يتمخَّض عن صاحبها من ألم وأنين يعظِّم شأنه عند من يحبون أحاديث البؤس والشقاء وتبكيهم تجارب الآخرين مخافة الوقوع فيها؟
الفكرة من كتاب ذكريات باريس
رحل زكي مبارك إلى باريس في بعثة دراسية لخمس سنوات فكان يدوِّن يوميات منفصلة يمزج فيها الصورة بالوجدان، والفكر بما تبصره العينان؛ فنقل إلينا نبض باريس حيًّا من مدينة وسكان ومعالم وطباع ومشاهد ووقائع، كما نقل إلينا نبضه هو في تلك التجربة من أحاسيس ومشاعر وتعليقات ومقارنات.
إنها حبيبته، برغم كل ما فيها فهي حبيبته حتى قال عنها: “وستظل باريس قبلة روحي ما بقيت في النفس ذكرى ما لقيت عندهما من عطف ورعاية وحنان”، فما الذي جعل زكي مبارك يحب باريس كل ذلك الحب؟ وأي تجربة تلك التي بهرته رغم كل ما وُجِّه إليها من انتقادات؟ هذا هو ما تقوله لنا ذكرياته في باريس.
مؤلف كتاب ذكريات باريس
زكي مبارك: شاعر وناقد ومفكر وأديب مصري وُلد عام 1892 بمركز أشمون بالمنوفية، درس في الكتَّاب منذ طفولته وحصل على ثلاث درجات دكتوراه لاحقًا، وكان من أحد المشاركين في ثورة 1919م بأشعاره الحماسية، ثم عزف عن المشاركة السياسية لأسباب رآها وسافر إلى العراق فمُنح هناك “وسام الرافدين”، وتوفي عام 1952م تاركًا خلفه إرثًا أدبيًّا وفكريًّا مختلفًا ألوانه، ومنه:
“مدامع العشاق”.
“وحي بغداد”.
“ليلى المريضة في العراق”.
“النثر الفني في القرن الرابع”.
“الأسمار والأحاديث”.