الدوائر المتصلة
الدوائر المتصلة
إن الأداة الثانية هذه المرة لن تعمل فقط على دائرة الأفكار، بل إن مبدأ الأداة الجديدة أن للكاتب قبل دائرة أفكاره دائرة تمثل حياته الشخصية داخل بيته ودائرة تمثِّل علاقاته الاجتماعية خارجه، وهذه الدوائر ليست منفصلة بعضها عن بعض، فما إن يحدث تعفُّن في إحدى الدوائر حتى تصل فورًا إلى باقي الدوائر وتؤثر فيها.
فبالنسبة إلى الدائرة الشخصية هناك ثلاث حالات: الأولى حالة تنتج فيها بطبيعتها الدوافع الحرمانية، بسبب تعفُّن في جوهرها (أزمة أخلاق)، وأخرى تنتج فيها الدوافع بصفة طارئة، بسبب ما يُحقن فيها من التعفُّن بطريقة صناعية أو ما يلصق بظاهرها فقط، مثال ذلك: أن تدخل امرأة جميلة في حياتك بشكل غير شرعي فتحدث خللًا أخلاقيًّا في دائرتك الشخصية، وأما الحالة الثالثة فلا تنتج مطلقًا إشعاعات حرمانية لأنها سليمة، ولم تنجح محاولات الإفساد في تشويهها.
أما بالنسبة إلى الدائرة الاجتماعية فهناك حالتان: الحالة الأولى أنها لا تنتج انعكاسات الحرمان لأن ما تتضمَّنه من علاقات اجتماعية إنما هي علاقات سليمة في جوهرها، كعائلته وأصدقائه في العمل وخارجه، وجيرانه وغيرهم من علاقاته الاجتماعية ممن لا خلل أو شبهات حولهم، والحالة الثانية أن الدائرة الاجتماعية تشع انعكاسات الحرمان لأن إحدى العلاقات التي تشملها مشتبه به، سواء بعلم الفرد، أو دون علمه.
فقد يكون له صلة جوار تشمل زوجين شابين، أو مجموعة طلاب يهتمون بالقضايا التي يكتب فيها، أو صلة ودية مع سيدة في الجريدة التي يعمل بها، وغير ذلك مما قد يخلق شبهة في دائرة علاقاته الاجتماعية.
الفكرة من كتاب الصراع الفكري في البلاد المستعمرة
تبدأ القصَّة حين دخل الاستعمار البلاد الإسلامية، نشأ الصراع في كل الميادين وبدأت فصول المقاومة ومنها الصراع الفكري الذي يجهل الشعب حقيقته ولعلَّه لا يعلم بوجوده أصلًا، ولكنه يعيش نتائجه السلبية، يجهل قيمة الفكرة في مصير المجتمعات ويجهل دقة الخطط التي ترسم للتحكُّم في مصير الشعوب المتخلِّفة عن طريق أفكارها.
يضيء لنا مالك بن نبي هذا الموضوع من الداخل في ظل تجربته الشخصية لنتعرَّف إلى حقيقة هذا النوع من الصراع وكيف تتم إدارته، حتى لا يمكننا مهما بلغنا من تجريد أن نفصل مغامرة (فكرة) عن مغامرة (صاحبها)، وكل ما يتمناه أن تقوم في بلادنا رابطة من المثقفين، لكشف هجمات الاستعمار على الجبهة الفكرية، حتى لا تبقى الأفكار معرضة لتلك الهجمات دون نجدة أو مدد، وحتى يفيق المجتمع من سباته.
مؤلف كتاب الصراع الفكري في البلاد المستعمرة
مالك بن نبي Malek Bennabi مفكِّر وفيلسوف ومهندس جزائري، ولد في ١ يناير ١٩٠٥م، وتوفِّي في ٣١ أكتوبر ١٩٧٣م، ويُعدُّ أحد رُوَّاد النهضة الفكرية الإسلامية في القرن العشرين، ويُمكن اعتباره امتدَادًا لمدرسة ابن خلدون، ويُعدُّ من أكثر المفكرين المعاصرين الذين نبَّهوا لضرورة العناية بمشكلات الحضارة، وترك أثرًا كبيرًا فيها.
من أهم كتبه: “مشكلات الحضارة وشروط النهضة”، و”مشكلة الحضارة في العالم الإسلامي”، و”ميلاد مجتمع”، و”الظاهرة القرآنية”، و”مشكلة الثقافة”، وغيرها الكثير.