الحياة الطيبة
الحياة الطيبة
في الجلوس الأخير من الصلاة نبتدئ بـ “التحيات”، قد يأتي في بالنا للوهلة الأولى أنه مجرد إلقاء للتحية، لكن لماذا الآن قرب النهاية؟ إن التحية في العادة تكون في بداية اللقاء، لا بد إذًا أن المعنى أعمق من ذلك، فالتحيات مشتقة من الفعل “حيى” التي سمعنا مرادفتها من قبل في النداء للصلاة “حي على الصلاة.. حي على الفلاح”، وقد أتت في هذا الموضع بالذات، ونحن على وشك الانتهاء، لتذكرنا بالهدف من كل الأركان السابقة للصلاة، أنها لم تُؤدَّ إلا لتبث فينا الحياة، وجاءت أيضًا لتحدد لنا الوجهة “التحيات لله” مصداقًا لقول إبراهيم عليه السلام ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
لم يُستعمل وصف “الطيب” لوصف الصلاة إلا في التشهد، وبالاستقراء نجد أن الاستعمال القرآني لكلمة “طيب” واسع المدى، فاستعمل لوصف الإنسان ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ أو وصف المعنى ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ وباستعمال أوسع لوصف الطعام الطيب ﴿كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ وهذا الوصف الأخير هو مدخل الكاتب إلى فهم الصلوات الطيبات، فقد حدد القرآن في غير موضع صلة واضحة بين “الطيبات و”الإنبات” والأرض الطيبة هي الأرض التي تصلح للإنبات، فترتبط هذه المعاني لتدلنا أن الهدف خلق إنسان مثمر؛ الصلوات الطيبات هدفها -بوصفها دورة تدريبية يومية- جعلنا أفرادًا مثمرين، ذلك هو جوهرها الذي يتجسد في كل فعل وكلمة من النية إلى التسليم، ولا يمكن الوصول إلى الهدف دون استعمال الوسيلة المُفضِيَة إليه.
هناك من يختار أن يترك الصلاة، فيحكم على نفسه أن يكون جدبًا لا نفع منه ولا ثمر، وهناك من يمارس الصلاة ممارسةً لا تجعلها مثمرة، بل تأدية إسقاط الفرض والتحجج أن تأديتها أفضل من تركها، فتصير تأدية الصلاة لترسيخ الوضع البائس الذي يكتنفه لا تأدية بهدف الخلاص منه، والصلاة قادرة على ذلك، لو رحم نفسه ونظر إليها نظرة مختلفة.
الفكرة من كتاب سدرة المنتهى.. حجر النهضة: منصة الانطلاق
ها قد وصلتَ إلى ختام الصلاة وجلستَ لتتلوَ التشهد الأخير، كم استغرق الأمر منك؟ خمس دقائق، عشر، عشرين؟ ليس بالوقت الكثير لكن أثره عظيم.
التأمل في الجمل المكونة للتحيات يفتح لنا آفاقًا واسعة، عن الحياة الطيبة والخير والبركة، عن النبي وآله، عن أنفسنا وكهوفها المظلمة التي نرجو إضاءتها، إنها المحطة الأخيرة قبل الانطلاق.
مؤلف كتاب سدرة المنتهى.. حجر النهضة: منصة الانطلاق
الدكتور أحمد خيري العمري، طبيب أسنان وكاتب عراقي مهتم بسؤال النهضة المعتمد على الجذور القرآنية، له عدة مؤلفات أهمها “البوصلة القرآنية”، “سيرة خليفة قادم” و”استرداد عمر من السيرة إلى المسيرة”، وغيرها.