الجيل القرآني الأول
الجيل القرآني الأول
كثيرًا ما ننظر إلى الجيل الأول نظرة إعجاب وانبهار، ونرى أن المسافة بيننا وبينهم شاسعة، بل نراهم أحيانًا بشرًا لا ككل البشر، فهم شيء خارق للعادة والتصوُّر، والحقيقة أنهم لم يبلغوا ما بلغوه ولم يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا من خلال التنشئة والارتباط بمصدر واحد فقط، درسوا وتعلَّموا من منهج واحد؛ من القرآن وحده، لم يتفرَّقوا بين المناهج ووحَّدوا الوسيلة لغاية واحدة فأدركوا المطلوب.
وفي الحقيقة أن المدرسة النبوية تستحق أن تدرس في هذا الأمر، فالتدرُّج فيها باهر، فضلًا عن الشمولية وعن مراعاة الشخصيات المختلفة واستغلال الطاقات البشرية المتنوعة كلٍّ في مكانه، فكان من منهجه (صلى الله عليه وسلم) أنه قدَّر لكل زمان ولكل مكان أسلوبًا دعويًّا يتناسب مع طبيعة المرحلة، ففي مكة كان الأسلوب الأرقمي نسبة إلى التجمع في دار الأرقم، فكانت القيادات تعد هناك وكانت الشخصيات تتبلور وتنضج فردًا فردًا، كل ذلك تحت عيني رسول الله مراعيًا اختلافهم وتنوع شخصياتهم، وهؤلاء هم اللبنة والأساس الذين كانوا فيما بعد الخلفاء والفقهاء والقضاة والقادة، فقط بثلاثة عشر عامًا من التحلُّق حول كتاب الله، ذلك الكتاب الذي أسلم بمجرد سماعه فقط أئمة الكفر وجبابرة القوم.
أما في المرحلة المدنية فإن الوضع مختلف؛ الأعداد أكبر ودوافع الإيمان مختلفة والمدينة مجتمع مليء بالطوائف العقدية، وبالتالي فإن إمكانية التحلُّق حول كتاب الله ومتابعة الأفراد ومحاولة توظيف طاقاتهم في الثغور المناسبة لهم لم يعد مناسبًا، فاحتاجت المرحلة المدنية إلى أسلوب منبري تُخاطب من خلاله الجموع بشكل عام وتبث من خلاله الشريعة التفصيلية التي جاءت في القرآن المدني وتصحح من خلاله المفاهيم والأخطاء، وبالتالي فإن الهدف هنا لم يكن تكوُّن شخصيات قيادية وإنما تكوين مجتمع مؤمن مطيع معد لحمل الراية، وبهذا الأسلوب خرج الأنصار حملة الألوية وحماة الإسلام على مدار ثلاثة قرون.
في مرحلة أخرى من المرحلة المدنية وبخاصةٍ بعد الفتح الإسلامي وازدياد أعداد الداخلين في الإسلام واقتراب اكتمال الوحي ازدادت الحاجة إلى أسلوب آخر فكان الأسلوب العلمي التعليمي، وهنا يمكن أن نسميها أيضًا “مرحلة التطبيق” لما سبق من أساليب نبوية، ففي هذه المرحلة كان الرسول ينتدب من صحابته من يعلم الناس ويفقِّههم في دينهم فيبلغون النص الشرعي وتطبيقه وهي السنة النبوية فتحصل للناس التربية الدعوية المقصودة، إما من خلال تطبيق النموذج الأرقمي أو من خلال النموذج المنبري أو من خلال النموذج العلمي، وذلك على مدار ثلاثة قرون، والمصدر واحد لم يتغير ولم يدخله الرأي بعد، وهذا التطبيق المختلف هو ما أنتج شخصياتٍ مختلفة من علماء وقادة وجند وأصحاب حرف ومهن وغيرهم.
الفكرة من كتاب التوحيد والوساطة في التربية الدعوية
هناك فوارق لطيفة دقيقة للغاية لا ينتبه لها معظم الخلق وتختلف أهميتها باختلاف عواقبها، ونحن هنا أمام فارق دقيق في عملية التربية الدعوية لا يُدرك أثره لمن لا يعلمه ابتداءً إلا بعد أن يقطع شوطًا في التربية فيُفتح عليه فيستدرك كما حصل للكاتب في بعض أمره.
بين التربية والوساطة، وبين التكوين والتلقين، وبين الإعداد والتقليد، هذا البون الذي يعرفنا عليه الكاتب مبكرًا للبعض وربما متأخرًا عند البعض الآخر، هذا البون هو ما يتمايز به القاصدون في النهاية، وربما مبكرًا!
مؤلف كتاب التوحيد والوساطة في التربية الدعوية
الدكتور فريد الأنصاري: وُلد في المغرب وعمل في مجال الدعوة الإسلامية، مدارسةً وتطبيقًا، ولم يحُل ذلك بينه وبين الابتلاء كعامة عباد الله ممن يختارهم الله لهذا، لحكم ومقاصد شتى، فصارع المرض وصارعه المرض حتى غلبه بمستشفى إستانبول بتركيا، ثم نُقِل إلى مسقط رأسه ليُدفن هناك.
له العديد من المؤلفات في مجال الدعوة، ومنها:
مجالس القرآن في ثلاثة مجلدات.
الفطرية، بعثة التجديد المقبلة: من الحركة الإسلامية إلى دعوة الإسلام.
الدين هو الصلاة، والسجود لله باب الفرج.