الثقافة في الأزمنة السائلة
الثقافة في الأزمنة السائلة
أدَّى تحوُّل الحداثة من مرحلة الصلابة وحالة اليقين إلى مرحلة السيولة وحالة اللايقين (مرحلة الحداثة المتأخرة أو ما بعد الحداثة) إلى عدم قدرة أي مظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية على الاحتفاظ بسماته ومعاييره زمنًا طويلًا؛ وأضحى التغيير والتحديث المستمر بلا هدف ولا غاية منشودة وإنما لمجرد أن التغيير هو السمة الثابتة الوحيدة في هذا العصر، وما لبثت الثقافة أن فقدت وظائفها السابقة تدريجيًّا، وتملَّصت من التزاماتها كرسالة حضارية وأداة لحفظ توازن المجتمع وحماية كيانه المادي والمعنوي، وتحوَّلت إلى إشباع حاجات فردية ولذات شهوانية.
وأصبحت الثقافة السائلة مستودعًا للبضائع، تُنافس لجذب انتباه عملائها، وطفقت تقوم بإنتاج رغبات وحاجات وخلق مفاتن ومغريات تخدم السوق الاستهلاكية المتوجِّهة نحو حركة البيع، وهكذا استغنت الثقافة عن المعايير الصارمة والدقيقة في وضع قواعد الاختيار والذوق واستعاضت عنها بمرونة الأذواق وسيولة المقترحات لا تفضل ذوقًا على ذوق، وصار مبدأ مثقفيها -بتعبير المؤلف- “هو الشراهة التي تأكل كل شيء، وتشعر كأنها في بيتها في كل بيئة ثقافية دون اعتبار أيٍّ منها بيتها، فضلًا عن اعتيار أن يكون لها بيت في الأساس”.
إنَّ القوى التي تحبِّذ تحرير السوق من القيود الاجتماعية والأخلاقية والسياسية هي نفسها المحرِّكة لاتجاه الثقافة نحو الحالة الحديثة السائلة؛ فليس للثقافة شعب تنوِّره أو مجتمع ترتقي به، بل زبائن تغريهم لإشباع حاجاتهم الاستهلاكية مع خلق حاجات جديدة أو تعديل الحاجات السابقة، في دائرة مفتوحة إلى الأبد ودوامة لا تنتهي من العروض والمغريات.
الفكرة من كتاب الثقافة السائلة
الثقافة هي مجموعة العقائد والقيم والعادات والفنون والمعارف التي يكوِّن بها المرء تصوِّره عن الكون والحياة والإنسان، وكانت الثقافة في الأزمنة السالفة ذات طبيعة صُلبة تؤدِّي وظيفة ثابتة محدَّدة المعالم والأهداف؛ فكان النظام أصل والخلل استثناء، ولكن في زمان الحداثة السائلة -كما يسميها المؤلف- ذاب كل شيء وتميَّعت كل مظاهر الثقافة لتصير خادمة للسوق الرأسمالي، وشكلًا من أشكال الأثرة التي لا تهتم للمستقبل ولا تعبأ بالتراث، وإنما تؤصِّل للاستمتاع باللذة الحاضرة وزيادتها.
مؤلف كتاب الثقافة السائلة
زيجمونت باومان (Zygmunt bauman): عالم اجتماع بولندي وأستاذ متقاعد في جامعة ليدز منذ ١٩٩٠، وقد ولد باومان عام ١٩٢٥، واستقر في إنجلترا بعد طرده من بولندا عام ١٩٧١ بتهمة معاداة السامية بتدبير من الحكومة الشيوعية، وعرف بتحليلاته العميقة عن العلاقة بين الحداثة والهولوكوست، واشتهر بسلسلة السيولة التي حلَّلت أثر ثقافة الاستهلاك والرأسمالية في تحولات الحداثة؛ وتُوفي في يناير ٢٠١٧.
من مؤلفاته:
– الحداثة السائلة.
– الحداثة والهولوكوست.