التمرد والمجابهة
التمرد والمجابهة
يصل المجتمع المتخلِّف بالضرورة في مرحلة من مراحل تطوره إلى العنف، بعد شيوع العلاقات الاضطهادية، وهنا يتوجه العنف ضد القوى المسؤولة عن القهر (المستعمر والمتسلط الداخلي)، فقد يئس الشعب من إمكانية الوصول إلى الحق الذاتي بالرضوخ، ومن ثم ليس هناك من لغة ممكنة مع قوى التسلط سوى لغة مماثلة للغتها، لغة القسوة والغلبة، ونكون بهذا أمام الظاهرة التي يسميها علماء الأحياء برد الفعل الحرج، والتي تتلخَّص في الخيار بين الفناء أو المجابهة، وهي ظاهرة تُلاحظ لدى الإنسان والحيوان على حدٍّ سواء.
فقد يستسلم الكائن الحي ويرضخ أو يهرب طالما برزت لديه إمكانية للنجاة، ولكن عندما تنعدم هذه الإمكانية يتحوَّل الضعف إلى قوة، ويعبئ كل طاقاته ويكثِّفها في دفاع مستميت عن وجوده، فإن تحدي الموت وقهره يحمل في النهاية معنى الانتصار على القهر والرضوخ اللذين يعنيان موتًا معنويًّا ووجوديًّا، ومنذ اللحظة التي يبدأ فيها الإنسان المقهور بتحدي الموت والظفر عليه يكون قد قلب من الناحية النفسية الذاتية المحض، معادلة التسلط أو الرضوخ وانتصر على ذاته، مما يتيح له الانتصار على قوى القهر فيما بعد.
إن الحاجة إلى قهر الموت هي المدخل إلى عملية التحرير، ففي ذلك انتصار على كل العقد الذاتية، انتصار على الخوف والاستكانة، انتصار على اليأس، انتصار على قلق الحاضر والمستقبل، إذ إن التخلف ظاهرة كلية، وعلاجها يجب أن يكون شموليًّا، يتنبه إلى كل مَواطن مقاومة التغيير التي يتضمَّنها ويتصدَّى لها بنفَس طويل، وأشد نقاط المقاومة استعصاءً على التغيير هي البنية النفسية التي يفرزها التخلُّف، بما تتميز به من قيم ونظرة إلى الكون، وهذه الخصائص النفسية تكون عقبة أمام التغيير الاجتماعي وتكون كوابح مهمة لمشاريع التنمية الحقيقية، ولذا وجب معالجتها معالجة حقيقية من كل الأوجه، حتى يمكن الوصول إلى علاج أشمل لظاهرة التخلف.
الفكرة من كتاب التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور
كثيرة هي الكتابات التي تناولت قضية التخلُّف في الدول النامية! ولكنَّها تركَّزت بالأساس حول الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، ومن ثمَّ قدمت حلولًا ترتكز على الاقتصاد والصناعة بوصفها منطلقات لنجاح عملية التنمية والتحديث، وتجاهلت معظمها عن عمدٍ أو جهل الإنسان، بوصفه محورًا رئيسًا لعملية التنمية، فقدَّمت هذه الأطروحات حلولًا مستوردة وحاولوا توطينها في بيئة غير التي خُلِقت لها، ولهذا لم تنتج إلا مشاريع برَّاقة صورية لم تحقِّق تنمية حقيقية ولا تقدمًا ملموسًا.
وفي هذا الإطار يأتي هذا الكتاب ليتناول الإنسان المتخلف بوصفه موضوعًا رئيسًا، ويركز على نفسيته وظواهر حياته وتصرفاته ونظرته ومواقفه واستجاباته للحياة من حوله، ويرى الكاتب أن سيكولوجية التخلف من الناحية الإنسانية هي سيكولوجية الإنسان المقهور الذي تسيطر على حياته علاقات القهر والتسلُّط والاعتباطية، والتي يواجهها بالرضوخ تارة وبالتمرد تارة أخرى، ومن ثم يعمد الكاتب إلى تناول سمات هذا الإنسان وأبعاده شخصيته كما سنرى.
مؤلف كتاب التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور
مصطفى حجازي: مفكر وعالم نفس لبناني. حصل على دكتوراه في علم النفس من جامعة ليون بفرنسا، وعمل أستاذًا للصحة الذهنية بجامعة لبنان ثم الجامعة البحرينية.
من أبرز مؤلفاته: “حصار الثقافة: بين القنوات الفضائية والدعوة الأصولية” (1998)، و”الإنسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية (2006)، و”الصحة النفسية: منظور دينامي تكاملي للنمو في البيت والمدرسة” 2006، و”علم النفس والعولمة: رؤى مستقبلية في التربية والتنمية” 2010، و”إطلاق طاقات الحياة: قراءات في علم النفس الإيجابي” 2011.