التقهقر نحو الماضي.. الكفاح ثقافة قومية
التقهقر نحو الماضي.. الكفاح ثقافة قومية
في الأوقات الأولى من حرب التحرير، يحاول الاستعمار تغليف المطالب القومية بأخرى اقتصادية، فيحاول أن يبين لبقية المستعمَرين أن المشكلة هي في بعض التفاصيل التي سيجتهد لإصلاحها، لكن ما تلبث الأحزاب أن تطالب بالمزيد، ويدرك الاستعمار أن لتهدئة هذه الأحزاب، سيبذل جهدًا في المستعمرات أكثر من بلاده، لذلك يهرع إلى الجيش والشرطة، مُتبنيًا فلسفة القوة.
في عالم آخر، نرى رجال الثقافة يخوضون هذه الحرب في ميدان التاريخ، ينفون أقوال المستعمر القائلة بهمجية شعوبهم في الماضي، فإذا بهم يدخلون في حرب قارية، يمثلون فيها عرقًاكاملًا، وفي الحقيقة لا يهتم المحتل بهذه المعركة. إن هذه الحرب يخوضها المثقف المستعمَر مع ذاته، لكنه يدرك عند بدء النضال أن تشبثه بهذه الحضارة، يعني ابتعاده الكامل عن واقع شعبه، وانقطاعه عن ثقافة قومه الحية، فإذا بهم يرتدون عن ثقافة شعبهم بشكل سطحي، يغرقون في المظاهر، ويتحمسون لكل فعل عفوي يصدر من الشعب، لكن تلك العادات التي يمدحونها، هي بقايا ثقافة، أفكار تخطتها العامة، فيصبح حديثهم كالأدباء الأجانب عندما يصفون المجتمعات الإفريقية، إنهم والشعب في أمس الحاجة إلى قيادته نحو المستقبل، يندفعون إلى عمق الماضي.
إن هذا المثقف الذي ارتمى على تمجيد ثقافته، لا يستطيع أن يضيف إليها شيئًا في أثناء الوضع الاستعماري، فالمحتل يرى كل المظاهر الثقافية عدوانًا على سلطته، فلا يستريح حتى يمحو هذه الثقافة أو يجمدها، ولكن عندما تبدأ حرب التحرير، نرى انعكاساتها مباشرة على هذه الثقافة، تلك المواجهات والتحارب، تنتقل إلى أدب المستعمَر وفنونه، يتحول من محاكاة أدب المحتل، إلى التعبير الذاتي، ومن الشعر والعواطف الفردية، إلى الرواية والقصة، ذات الشخوص والعوالم الواسعة، والآن نرى تلك الحكايات والموروثات الشعبية الجامدة، قد داخلتها عناصر أخرى جديدة، أبطال معاصرون وأسماء وأماكن معروفة للشعب، وعندها يسارع مثقفو الاستعمار بالتنديد بهذا الاتجاه الجديد، إنهم يشعرون بالحركة الجديدة، ويرون المستعمَرين قد توقفوا عن استعارة كلمات المحتل، فيدعو المستعمِر إلى المحافظة على الثقافة القومية التي محاها سابقًا، ولكن هذا الكفاح، بوصفه يطالب بعالم جديد ذي علاقات وأطر ثقافية جديدة، لا يهتم بالثقافة القديمة، إنه يطمح إلى محو ثقافة المستعمَر كذلك.
الفكرة من كتاب معذبو الأرض
كان المحتلون في البداية يملكون الكلمة؛ يهتفون ويردد المستعمَرون وراءهم، تقودهم النخبة المُصطفاة من المستعمِر، كان ذلك عصر الإخضاع؛ عصرًا أوروبيًّا بامتياز، وإذا بتلك الأسنان البيضاء الناصعة تتحرك من تلقاء نفسها، تتكلم، وتُحاجج الأوروبي بقيمه التي فرضها، وكان ذلك عصر التجاهل، ثم تعالت تلك النبرة، واستحالت إلى صراخ، وتشنجت العضلات في البداية، بدأ العبيد يتحسسون أجسادهم، إنهم بشر أيضًا، وها هو عصر الغضب.
يتحدث فانون -المؤلف- كثيرًا عن الأوروبيين، ولكنه يتوجه بحديثه إلى قومه في العالم الثالث حصرًا، إنه لا يهتم بالمجازر ولا يستنكر ما فعلته أوروبا، إنه فقط يستخدمها، يشرح لإخوته: “إذا كانت وسيلة المستعمِر هي القوة، فليس أمامنا سوى العبودية أو السيادة”.
مؤلف كتاب معذبو الأرض
فرانز عمر فانون: طبيب نفسي وفيلسوف اجتماعي، وُلد عام 1925م في جزر المارتينيك، التحق بالمدرسة الطبية في ليون، عمل طبيبًا عسكريًّا في الجزائر في أثناء الاستعمار الفرنسي، انضم وقتها إلى جبهة التحرير الوطني الجزائرية بشكل سري، ليستقيل من عمله مُعلنًا انضمامه للجبهة، تُوفي عام 1961م مُتأثرًا بسرطان الدم، ودُفن في مقبرة مقاتلي الحرية بالجزائر كما أوصى، أعماله الأخرى:
بشرة سمراء وأقنعة بيضاء.
استعمار يحتضر.
معلومات عن المترجم:
سامي الدروبي: سياسي وكاتب ومترجم وأستاذ جامعي سوري، كان عميدًا لكلية التربية في جامعة دمشق، عُين وزيرًا للمعارف، اشتهر بترجمته لأعمال كتاب روسيا الكبار، مثل دوستويفسكي وتولستوي وغيرهما.
جمال الأتاسي: كاتب ومترجم وسياسي سوري، حصل على الدكتوراه في الطب النفسي من فرنسا، وكان من مؤسسي حزب البعث العربي الاشتراكي، عُين وزيرًا للإعلام في وزارة صلاح البيطار.