التطهر بالعنف.. الأواخر هم الأوائل
التطهر بالعنف.. الأواخر هم الأوائل
تأمل معي هذا العالم المنقسم، نستطيع أن نميز حدوده بالضوء، مدينة متلألئة بالنور، وشيء مبهم آخر، أزقة متهاوية، وبيوت ليس لها معالم، إنه عالم المستعمرات، عالم صنعه المحتل مثلما صنع المستعمَر، وجمعته رابطة أساسها العنف والعبودية، وفي ظل هذا النظام الاستعماري، تتحدد الطبقة الاجتماعية بحق النوع؛ أنت غني لأنك أبيض، أو فقير لأنك عربي أو أسود، يظل هؤلاء الذين جاؤوا من مكان آخر هم السادة، ولكنهم ما زالوا غرباء أيضًا.
تتشابه المستعمرات مع المتاحف في كثير من الأشياء، لا يمل المحتل تأكيد وجوده، في كل شارع هناك تمثال يقول للمستعمَرين: أنا السيد هنا، عالم ملئ بالخطوط والحدود، يجعل المستعمِر مرهوبًا في كل لحظة، لكن ما يفهمه المستعمَرون أيضًا، أن عليهم تحضير أنفسهم جيدًا للمعركة، يجب أن تكون الضربة قاصمة. إن مشاعر هؤلاء الرجال تنفجر داخلهم مع كل إذلال، وستخرج مع أقل حافز، سواء في نزاعات قبلية أو فردية، فإن المُستعمَر يصبح عدائيًّا للغاية، ويستقوي الإخوة على بعضهم، وتعود الأحقاد القديمة إلى الظهور، يبدأ العنف في التحرر من نفوس العبيد، ولا ينقصه سوى التوجيه نحو الهدف المنشود.
إننا حين نتحدث عن محو الاستعمار، ليس المقصود إعلان الاستقلال فقط، بل تبديل عالم كامل، عندما أتى المحتل فأفسد مجتمع السكان الأصليين، أدرك المستعمَرون حينها أن العنف وحده هو الوسيلة لقلب هذا العالم، أي محو إحدى هاتين المدينتين، وعندما يبدأ المستعمَرون في تثبيت قواعدهم، يرون جماعة من إخوتهم يحدثونهم عن القيم الإنسانية الغربية، فيسارعون إلى أسلحتهم لأنهم قد اختبروا هذه القيم جيدًا.
في تلك اللحظة بالذات، التي تسبق شرارة النضال، تهرع الأحزاب السياسية إلى الشعب، تنصحه بمسارات أخرى غير عنيفة، لأن هذه الأحزاب تملك أكثر مما يملك هؤلاء الجوعى، تخشى أن تُفقدها الثورة كل شيء، في الحقيقة إن الاستعمار يخشى أيضًا غياب الأحزاب، إنها بشكل ما الحاجز الأخير الذي يلجم هذه الأمواج، ولكن الشعوب المستعمَرة قد أضحت تشبع من السياسة أكثر من الطعام، أدركوا قدرتهم على قلب موازين القوى، وفهموا أن المواقف الرمادية هي سمة السياسة الحديثة، تعلموا كيف يكسبون بالحياد ما كانوا يخسرونه بالتحيز.
الفكرة من كتاب معذبو الأرض
كان المحتلون في البداية يملكون الكلمة؛ يهتفون ويردد المستعمَرون وراءهم، تقودهم النخبة المُصطفاة من المستعمِر، كان ذلك عصر الإخضاع؛ عصرًا أوروبيًّا بامتياز، وإذا بتلك الأسنان البيضاء الناصعة تتحرك من تلقاء نفسها، تتكلم، وتُحاجج الأوروبي بقيمه التي فرضها، وكان ذلك عصر التجاهل، ثم تعالت تلك النبرة، واستحالت إلى صراخ، وتشنجت العضلات في البداية، بدأ العبيد يتحسسون أجسادهم، إنهم بشر أيضًا، وها هو عصر الغضب.
يتحدث فانون -المؤلف- كثيرًا عن الأوروبيين، ولكنه يتوجه بحديثه إلى قومه في العالم الثالث حصرًا، إنه لا يهتم بالمجازر ولا يستنكر ما فعلته أوروبا، إنه فقط يستخدمها، يشرح لإخوته: “إذا كانت وسيلة المستعمِر هي القوة، فليس أمامنا سوى العبودية أو السيادة”.
مؤلف كتاب معذبو الأرض
فرانز عمر فانون: طبيب نفسي وفيلسوف اجتماعي، وُلد عام 1925م في جزر المارتينيك، التحق بالمدرسة الطبية في ليون، عمل طبيبًا عسكريًّا في الجزائر في أثناء الاستعمار الفرنسي، انضم وقتها إلى جبهة التحرير الوطني الجزائرية بشكل سري، ليستقيل من عمله مُعلنًا انضمامه للجبهة، تُوفي عام 1961م مُتأثرًا بسرطان الدم، ودُفن في مقبرة مقاتلي الحرية بالجزائر كما أوصى، أعماله الأخرى:
بشرة سمراء وأقنعة بيضاء.
استعمار يحتضر.
معلومات عن المترجم:
سامي الدروبي: سياسي وكاتب ومترجم وأستاذ جامعي سوري، كان عميدًا لكلية التربية في جامعة دمشق، عُين وزيرًا للمعارف، اشتهر بترجمته لأعمال كتاب روسيا الكبار، مثل دوستويفسكي وتولستوي وغيرهما.
جمال الأتاسي: كاتب ومترجم وسياسي سوري، حصل على الدكتوراه في الطب النفسي من فرنسا، وكان من مؤسسي حزب البعث العربي الاشتراكي، عُين وزيرًا للإعلام في وزارة صلاح البيطار.