الترف تاريخيًّا
الترف تاريخيًّا
بالنظر إلى التاريخ نجد أن “الترف” نشأ وتطور تبعًا لأهداف أخلاقية واجتماعية، فقد كان الترف دائمًا مرادفًا للتصنُّع والتكلُّف، فأسهم الترف بذلك في قلق الروح، كما أبعد الإنسان عن السعادة وأفراح البساطة، بالإضافة إلى جعله الناس تعساء نتيجة التنافس لنيل الملذات الكاذبة، وبناءً على ذلك -يرى ليبوفتسكي- أنه علينا أن نتراجع عن الفهم الخاطئ الذي يصوِّر إنسان ما قبل العصر الحجري الحديث ككائن مصيره إلى ظروف بائسة يسكنه الخوف من الموت جوعًا وبردًا، ومخصصًا كل وقته للبحث عن الطعام لأن الأنثروبولوجيا قد قدَّمت لنا تفنيدًا لاذعًا لاقتصاد العوز هذا، حيث لم تنتقل الإنسانية من الحرمان التام للجميع إلى الغنى الساحق للبعض فجأة كما يعتقد، فالسخاء والزينة ظاهرتان موجودتان كونيًّا في المجتمعات الإنسانية، فقد وُلِدَ الترف وبدأ مع فكرة “الإنفاق”، أي قبل فكرة ادِّخار الأشياء النادرة، فالترف قبل أن يكون علامة على الحضارة المادية كان ظاهرة ثقافية، وحالة نفسية يمكن اعتبارها شيئًا يميِّز الإنسان الاجتماعي، مؤكدًا إنسانيته وقدرته على السمو.
إن ما يميِّز الترف البدائي عن الترف الحديث هو “الهبة” في التبادل الاحتفالي والإنفاق بسخاء، وليس تكديس الممتلكات الثمينة، فلا شيء في المجتمع البدائي أشنع من أن تكون بخيلًا، أو تتصف بصفات غير الكرم والعطاء، فكل الأحداث المهمة في الحياة الاجتماعية ترافقها دائمًا عروض احتفالية يكثر فيها الإنفاق ببذخ، بجانب تبادل الهدايا من أجل التباهي والتفاخر، فقد كان النبل يفرض على الزعماء منح الهدايا دون توقُّف، ورئاسة الحفلات، وإقامة الولائم الكبيرة للحفاظ على وضعهم الاجتماعي، أو الرفع من مكانتهم الاجتماعية، فلم يكن امتلاك الأشياء الثمينة هو ما يهم، إنما العنصر الاجتماعي والروحي الذي يحمله الإنفاق بسخاء وتبادل الهبات هو المهم والدافع وراء الترف.
فحينما تعطي الأعطية وتردُّها بكرم -كما يرى ليبوفتسكي- يعني جعل العنصر الفردي متوقفًا على الكل الشمولي؛ ضامنين غلبة العلاقات بين البشر على علاقات البشر بالأشياء، وهي طريقة ضد رغبات الامتلاك وتكديس الثروات في أيدي البعض، ففي المجتمع البدائي كانت العظمة مسخَّرة لعدم قسمة المجتمع، ولتفادي الفرقة بين أعضاء الجماعة، وبالتالي فإنه خلال أطول فترة في التاريخ عمل الترف بنجاح ضد تركيز الثروات، وضد الهيمنة السياسية، فعبر الجود التفاخري كان يتم توطيد العلاقات وتحويل العدو إلى صديق.
الفكرة من كتاب الترف الخالد.. من عصر المقدس إلى زمن الماركات
شهد الاقتصاد خلال الفترة الأخيرة توسعًا كبيرًا لسوق الترف، والذي قُدِّر عام 2000 بحوالي 90 مليار يورو، فبعد أن كانت المنتجات الفاخرة مقصورة سابقًا على الفئة البرجوازية رفيعة المقام، نزلت تدريجيًّا إلى الشارع، وأصبحت في متناول الجميع، وصار الهدف الرئيس للمجموعات الكبرى فتح الترف في وجه أكبر عدد ممكن من الناس، وتولَّدت علاقة بين الإنسان المعاصر والمنتجات الباهظة، وصارت الماركة على الملابس أهم من المنتج نفسه!
مؤلف كتاب الترف الخالد.. من عصر المقدس إلى زمن الماركات
جيل ليبوفتسكي ، فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي، له عدد من الدراسات والبحوث في نقد الحداثة وما بعد الحداثة والعولمة والرأسمالية النيوليبرالية، وتفكيك بِنى المجتمعات الاستهلاكية، له مؤلفات عديدة، منها: “مملكة الموضة”، و”المرأة الثالثة”، و”الترف الخالد”، و”الشاشة العالمية”، وأفول الواجب”.
إلييت رو أستاذة بكلية IAE للأعمال في جامعة بول سيزان بفرنسا، وباحثة متخصِّصة في العلامات التجارية، لها أكثر من 60 مقالة علمية عن الثقافات والنجاح وإدارة العلامات التجارية الفاخرة.