البلخي مقابل الغرب
البلخي مقابل الغرب
إن اكتشاف ما يسمى بالعلاج المعرفي السلوكي في الطب النفسي اليوم من العمل على تغيير أفكار المرضى أو المضطربين نفسيًّا بهدف تحسين سلوكهم وحياتهم بشكل عام، وكبديل للنظريات والمدارس النفسية المختلفة والمضطربة أحيانًا، وكوسائل علاجية للاضطرابات النفسية، ليس اكتشافًا بالمعنى الحرفي، وليس شيئًا جديدًا توصَّل إليه علم النفس الحديث أو الغربي، بل كان مكتشفًا من قبل مئات السنين هناك في بلخ!
قسم البلخي الإنسان إلى جسد وروح يشكِّلان معًا وحدة إنسانية واحدة، فليسا مستقلين وليست النفس بشيء لا تأثير له، أو عبارة عن مجرد إحساس أو شعور بالذات فقط كما تنظر إليها وتفسرها النظريات الغربية، وهذا التفسير مؤثر جدًّا في العلاج وموجَّه إليه، ثم صنَّف البلخي أهم الأمراض النفسية تحت تصانيف أربعة شاملة هي ما يدور حولها علم النفس الحديث اليوم! ألا وهي: الغضب والحزن والفزع والوسواس، وهي المعروفة اليوم بالاضطرابات العصابية، وتحت مسمى: القلق والاكتئاب والمخاوف المرضية والعصاب الوسواسي القهري.
تتميَّز نظرة وأسلوب البلخي أيضًا بتقريره أولًا أن هناك أنواعًا من الاضطرابات يصاب بها كل الناس في كل يوم تقريبًا، لكن ما يجعلنا نطلق على أحدهم مريضًا ويحتاج إلى علاج هو مقدار شدة هذا الاضطراب عنده ومنعه من القيام بمهامه اليومية والاستمتاع بحياته، فهو يقسم الناس بحسب درجة الاضطراب لا بحسب نوعه وجودًا وعدمًا، ثانيًا أن الإنسان يتأثر بالمثيرات والحوادث الخارجية التي تدخل إليه فتؤثر أيضًا في عالم أفكاره وشعوره، وبالتالي فإن العلاج ينبغي أن يكون منصبًّا على تغير عالم الأفكار، وحتى لا نصل إلى هذه المرحلة -وكما يقال فإن الوقاية خير من العلاج- فإنه يدعو الإنسان إلى أن يزود نفسه دائمًا بالأجسام الفكرية المضادة، فإن احتاجها وجدها كما نزوِّد منازلنا بالصيدلية الدوائية، وهذا التوجُّه الوقائي أثبت نجاحًا في التخلُّص مما يعرَف بالمخاوف المرضية مثلًا!
إن معالجة البلخي لكل من الأمراض الأربعة السالف ذكرها بما يشهد الغرب اليوم بصحته وقد يغض النظر عن نسبته إلى عالمنا المسلم لمن العجب العجاب، وعزاؤنا الوحيد أن نجد في تاريخنا الإسلامي عالمًا مثله.
الفكرة من كتاب مصالح الأبدان والأنفس
إن جهلنا بتاريخنا الإسلامي وغلبة المادة والنظرية الغربية المفسِّرة لكل شيء من حولنا تقريبًا أورثنا ضعفًا وانقيادًا للغرب بمخرجاته صحيحة كانت أم فاسدة، وأسلمنا أنفسنا وأجسادنا (بالمعنى الحرفي) له ليجرِّب ويكتشف، ثم يتبيَّن خطأه ونقصه بعد مرور الأعوام وفوات الأوان!
هذا الكتاب يعد دليلًا قويًّا على سبق العالم الإسلامي في الطب النفسي منذ مئات السنين، وبخاصةٍ في العلاج المعرفي السلوكي الذي ينبهر الغرب اليوم بنتائجه، ولكنها عقدة النقص!
مؤلف كتاب مصالح الأبدان والأنفس
أبو زيد البلخي: وُلد في مدينة بلخ، والتي تُعد من أكبر مدن خراسان، وهي اليوم مدينة من مدن أفغانستان عام 235 للهجرة، وفي شبابه سافر إلى العراق طلبًا للعلم فتبحَّر في الفلسفة والفيزياء والتنجيم وأصول الدين والطب، وتتلمذ على يد علماء كبار من بينهم يعقوب بن إسحاق الكندي الفيلسوف العربي المعروف.
لم يكن عصر البلخي عصرًا هادئًا، بل كان مضطربًا من الناحية السياسية ومن الناحية الدينية أيضًا، فأما من الناحية السياسية فاتسم العصر بضعف الدولة العباسية وتكالُب الفتن عليها من كل حدب وصوب، وباشتعال الفتن في البلاد التابعة لها ومن بينها خراسان، واتسمت تلك الفترة أيضًا بظهور الفرق والحركات الباطنية كحركة الزنج والقرامطة مثلًا؛ خروجًا على الدولة العباسية وتأسيسًا لمُلك مستقل عنها، بل وظهرت الفرق والمذاهب الكلامية أيضًا، ويبدو أن البلخي نفسه قد تأثَّر بشيء منها ثم عاد إلى جادة الصواب، ويُقال بل كان على العقيدة الصحيحة، ولم تتكدَّر عقيدته بشيء من ذلك.
بعدما أنهى رحلته في العراق عاد إلى مدينته وعرض عليه حاكمها أحمد بن سهل المروزي الوزارة فرفض البلخي هذا العرض وقبِل أن يكون كاتبًا للحاكم.
ألَّف البلخي ما يقارب الستين كتابًا، ومن ذلك:
فضيلة علم الأخبار.
فضل مكة على سائر البقاع.
الشطرنج.