البدايات الحائرة.. قاهرة الزمن الماضي
البدايات الحائرة.. قاهرة الزمن الماضي
متى يعرف الإنسان نفسه؟ يظل الناشئ يتخبط بين أمانيه وتطلعاته، ويسأل نفسه ماذا يريد؟ فربما يُخيل إليه للوهلة الأولى أن حمل السلاح، والذود عن الأوطان هو ما ترنو إليه نفسه، تعتريه الحماسة وهو يردد الأناشيد، فيضرب بقدميه الأرض، أو يسمع أشعارًا تصف الطبيعة، تمتلئ بالأنهار والأشجار، فيشعر بتناغم ما معها، ويعتقد أنه قد ورث أجداده القدماء، وارتبط بالأرض والزرع مثلهم، عليه أن يصبح فلاحًا يبذر الحياة وسط هذه الصحاري المتسعة، لكن مع التنقل من حلم إلى آخر، تتكشف الغايات واضحة ساطعة، لم تكن كل تلك الأحلام سوى استعارات واقتباسات من تلك الغاية، أو ذلك المطلب، رأى العقاد ولعه يشترك بين كل هذه الغايات، لم تستهوِه من الجندية إلا حماستها، ومن الزراعة إلا صور الحياة وأطوارها، وجد نفسه تستقر على حب الكتابة والأدب، ثم قاده هذا الولع وشجاعة الصبيان إلى تقليد أساتذة وصحفيي عصره، فأصدر مجلة كما أصدروا، لكن منعته تربيته المحافظة في أسوان من شغب الصحافة ونفاق السياسة.
كانت دعوة الأقلام ومهنة الصحافة قد سكنت كل أركان القاهرة، وأصبحت عاصمة مصر مركزًا لكل دعوة تخص العرب والمسلمين، لم تضاهِها الأستانة ولا أي عاصمة عالمية في ذلك الوقت، كانت “العروة الوثقى” و”الأستاذ” قد ملأتا الدنيا وشغلتا الناس، أخذت تلك الأجواء بعقل الفتى القادم من الجنوب، المحب للكتابة والأدب، العاشق للكلمة وسلاحها، أيترك وظيفته في الحكومة وينضم إلى هذا الصخب في الحال، أم عليه التريث؟ فانحطاط هذا الوسط غير خافٍ أيضًا، هل يتوهم أنه سيجد وراء هذا الصوت العالي أضرابًا لمحمد عبده وجمال الدين وعبد الله النديم؟ وتريث العقاد بالفعل، تريث كثيرًا حتى وجد إلفه في الأستاذ فريد وجدي، الذي ينادي بالاستقلال لكن ليس بأيدي الإنجليز، فهو مغضوب عليه من الخديوي، ومُبعد عن حركة الاستقلال التي ترى في الاحتلال الحديث وسيلتها نحو التخلص من السيادة العثمانية، رأى العقاد في هذا الرجل وجريدته “الدستور” قبسًا من الزمن الماضي جديرًا بقلمه الفتي.
الفكرة من كتاب حياة قلم
في أسوان، يرى خلفه جبال النوبة شامخة، ترفع أعلام الماضي وترفض أن تتقاصر للبساط المحيط بها، وأمامه الوادي يشق جبهة الهضبة الحجرية، وينحر الصحراء لينعم على هذا القطر بالزرع والرفاه، فماذا يبقى لمصر إذا ذهبت أسوان وذهب نيلها؟
كان عصر العقاد مليئًا بالأفذاذ في كل فن، وليس من السهل على فتًى قادم من أقصى الصعيد أن يتميز قلمه بين هؤلاء الكبار، لكنه ومنذ البداية لم يكن يعبأ بالأنداد، ويعطيه قلمه وحدسه الثقة الكبيرة بما يُقدم وما يفعل، حتى انتزع لنفسه منزلة بين الأعلام. في هذه السيرة الذاتية، يهتم العقاد بأن يعرض لنا سيرته الصحفية والأدبية، منذ إنشائه مجلته الخاصة في الابتدائية، حتى توليه قلم الأدب في جريدة “المؤيد”، يقص علينا جولاته في عديد الوظائف التي شغلها، وصولاته مع عديد الشخصيات التي عاصرها، وفي النهاية نتعرف شيئًا من فلسفته وآرائه في قضايا السياسة والأدب.
مؤلف كتاب حياة قلم
عباس محمود العقاد: وُلد في أسوان عام 1889م، ونشأ في أسرة فقيرة، فلم يتعد في تعليمه المرحلة الابتدائية، ولكنه اعتمد على ذكائه في تكوين ثقافة موسوعية، وتعلم اللغة الإنجليزية في طفولته من مخالطته الأجانب الزائرين لأسوان.
اشتغل بالسياسة في فترة من حياته وانتُخِبَ نائبًا للبرلمان، وسُجِنَ تسعة أشهر بتهمة “العيب في الذات الملكية”، عُرفت عنه معاركه الأدبية مع كبار مفكري عصره، كالرافعي وطه حسين، وأسس مع عبد القادر المازني وعبد الرحمن شكري “مدرسة الديوان” الشعرية.
وللعقاد عديد من المؤلفات والدواوين الشعرية نذكر أهمها:
سلسلة العبقريات.
كتاب “ساعات بين الكتب”.
كتاب “التفكير فريضة إسلامية”.
ديوان “أعاصير مغرب”.
ديوان “عابر سبيل”.