الانتقال من المجتمع الصناعي إلى مجتمع الحداثة الفائقة
الانتقال من المجتمع الصناعي إلى مجتمع الحداثة الفائقة
إن صورة المجتمع الصناعي هي صورة التوجه نحو التقدم، بينما صورة مجتمعات الحداثة الفائقة هي انعكاس لتجربة الوعي، فبعد أن كان الإنسان خلال الأزمنة الماضية ينتظر من السماء أو من فوق الطبيعة تفريقًا بين الخير والشر، فهو في زمن الحداثة الفائقة -التي على الأبواب- يستمد معنى أفعاله وتجربته والتفريق بين ما هو خير وما هو شر من خلال الوعي بالذات وتفكيره في ذاته ومن التأويلات التي يسبغها عليها، لذلك فإن مجتمع الحداثة الفائقة يتسم بسيرورة نزع لأي طابع مؤسسي أو سلطة عُليا، كنزع كل ما كان يكوِّن الأسرة، لذلك فإن تحوّل الإنسان إلى إله قد حرمه متعته بذاته وشعوره بالسعادة.
إن مجتمع الحداثة الفائقة هو مجتمع الجماهير، لأن الدخول فيها جماهيري وسريع، وهذا راجع إلى أنها لا تقترن بآليات انتقائية أو قمعية كما كان الحال في المجتمعات والأزمنة السابقة، فلم تعد سيطرة البشر على أنفسهم وعلى الطبيعة ذات طابع تقني، بل أصبحت ذات طابع اجتماعي وثقافي، كما لم يعد مصدر الشرعية متعلقًا بالدين أو السياسة أو الاقتصاد، بل بابتكارية الإنسان عينها، ولا يخلو مجتمع الحداثة الفائقة من وجود صراعات، وفي مركزها الصراع الثقافي، الذي نتيجته صراع ديمقراطي، فهي في صراع دائم مع كل من يعطي أولوية لمصلحة أو هوية جماعية أو إثنية أو أمة على حساب الآخرين، فأولويتها هي إرساء المساواة بين الجميع خصوصًا مع الأجانب في التمتع بحقوقهم الإنسانية الأساسية والدفاع عنها، لذلك فإن الصورة الأكثر اكتمالًا عن الشر في ظل مجتمعات الحداثة الفائقة هي العنصرية.
في القرون السابقة قامت المجتمعات الحداثية على ربط اقتصاد السوق الرأسمالية بالدول القومية، واستمر هذا الربط قائمًا إلى أن تم تقويضه بنشوب الحروب العالمية، وعولمة الاقتصاد، ونهاية المنظومة الاستعمارية، ففي ظل العولمة تراجعت السيطرة السياسية على الحياة الفردية والجماعية، فتراجع بالتبعية دور السلطة الشاملة المتمثلة في وجود دولة تهيمن وتتحكم في جميع جوانب الحياة الاجتماعية، وأصبح مجتمع الحداثة الفائقة يطلب من الجميع الانخراط في عملية التواصل، واستنفار جميع ملامح شخصياتهم للتفاعل مع الذين يتوجهون إليهم، ومن ثمَّ فإن مجتمع الحداثة الفائقة يرتكز على الاتصالات لا السلطتين السياسية والاقتصادية، وقد أحرزت الحركات الاجتماعية نجاحًا كبيرًا في مواجهة السلطة الشاملة لـ1% من الأغنياء في العالم، والطريقة الوحيدة لمواجهة ذوي الثراء الفاحش هي إعادة ابتكار مجتمع مدني متنوع بصراعاته وتحالفاته الداخلية.
الفكرة من كتاب الحداثة المتجددة.. نحو مجتمعات أكثر إنسانية
يرى “ألان تورين” أن جميع النظريات التي وصفت الحداثة قد اختزلت المجتمعات الحداثية في مجرد مجتمعات اقتصادية استهلاكية أو سياسية قانونية، لذلك يرى أنه لا بد من رفض أي نظرية تقيد السلوك الإنساني وفق قواعد وقوانين ثابتة، ومن خلال ذلك يستعرض مراحل الحداثة، ويحلل المجتمعات الحديثة، كما يرى أننا على أعتاب الدخول إلى مجتمع جديد هو “مجتمع الحداثة الفائقة” حيث يعتمد الإنسان على وعيه بذاته من أجل السيطرة عليها وعلى الطبيعة.
مؤلف كتاب الحداثة المتجددة.. نحو مجتمعات أكثر إنسانية
ألان تورين: هو عالم اجتماعي فرنسي ذو شهرة عالمية، حصل عام 1998 على جائزة “أمالفي Amalfi” الأوربية لعلم الاجتماع والعلوم الاجتماعية، له مؤلفات عديدة بلغت نحو أربعين مؤلفًا، منها:
ما هي الديمقراطية؟
نقد الحداثة.
براديغما جديدة لفهم عالم اليوم.
من أجل علم الاجتماع.
معلومات عن المترجم:
جلال بدلة: مترجم وأكاديمي سوري من مواليد دمشق عام 1977، حاصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة المعاصرة من جامعة بوردو الثالثة، من ترجماته:
فلسفة العنف.
الهمجية.
الإسلام والجمهورية والعالم.
الهوية والوجود: العقلانية التنويرية والموروث الديني.