الإنسان الاقتصادي غير عقلاني.. وإنما هو متكيِّف
الإنسان الاقتصادي غير عقلاني.. وإنما هو متكيِّف
في الربع الأخير من القرن الثامن عشر كان العالم على وشك بداية عصر جديد في مشروع استكشاف مجاهل العالم الإنساني، وذلك مع المفكر الاقتصادي آدم سميث الذي بشَّر بفكرة المصلحة الذاتية التي يسعى إليها الإنسان في كل تصرُّفاته والتي بناءً عليها يتعامل أفراد المجتمع مع غيرهم بشكل يوحي بالتعاون الإيثاري، لكنه قائم بالأساس على السعي للمصلحة الذاتية لمجموع أفراده، تلك النظرة لآدم سميث هي التي أصَّلت بشكل كبير لمفهوم العقلانية والرشادة للإنسان الاقتصادي، والتي تعدُّ أهم افتراض في عالم الاقتصاد على مدار القرون اللاحقة، ويقول المؤلف: “عرف علماء الاقتصاد كيف يقيمون حول فكرة آدم سميث إطار عمل رياضيًّا باهرًا، بل ووجدوا الوسيلة إذ اعتدُّوا بالعقلانية، كموجِّه لأفعال الإنسان كافة، لإثبات نظريات رياضية عن بعض جوانب العالم الإنساني، حتى باتت هذه النظريات تبدو معصومة من كل خطأ”.
ولكن علم الاقتصاد رغم هذا التوجُّه لم يزل بعيدًا كل البعد عن النجاح، رغم استخدامه المفاهيم الرياضية والإحصائية، في إثبات كونه “علمًا” وفق الاصطلاح الذي يستخدمه علماء الطبيعة في توصيف هذا المفهوم، فهو علم فاشل بناء على اختبارات المعايير العادية للعلم من ناحية انطباق النظرية التفسيرية على العالم الواقعي، وقد افترض الاقتصاديون أن الإنسان لا يقوم بأي فعل من الأفعال إلا بناء على حسابات عقلانية ومقدرة ذهنية عالية تساعده على إنجاز تلك العمليات، إلا أنه بالنظر إلى العالم الواقعي فإننا نجد عدم وصول أيٍّ من الأفراد إلى هذا النموذج المثالي في أي مكان كان، بل إن الناس في الواقع يتخذون قراراتهم بناءً على عوامل شعورية بشكل أكبر من الحسابات العقلية، حتى أنه في حالات كثيرة يتخذ الفرد قراره بناء على عمليات عاطفية كاملة كالحسد والحب والغضب دون أي عمليات تفكير واعية، ولنا في أفعال الانتقام الانتحارية خير مثال.
حاول العلماء مع بداية العصر الجديد، وهو العصر الذي يبشِّر به الكتاب، الوصول إلى حل بديل بدلًا من الحلم الجماعي لفكرة الإنسان العقلاني، وتوصَّلوا إلى أن ضروب السلوك البشري المختلفة تستند إلى فكرة التكيف، فالتفكير العقلاني ظاهرة حقيقية وموجودة على أرض الواقع لكنها ليست هي الأساس الشامل في اتخاذ القرارات للأفراد وإنما الأساس هو أن الإنسان بناءً على تفكير عقلاني، يقوم باتخاذ قرار معتمد على مخزونه الواعي من القواعد والأفكار، ثم يتصرَّف بناء على نتائج هذا التفكير، ويتكيَّف تبعًا لذلك في المواقف اللاحقة.
يقول المؤلف عن فكرة التكيُّف: “إنه بنفس بساطة افتراض العقلانية، غير أنها تتفق والواقع؛ وبخاصةٍ بشأن من يتخذون قراراتهم داخل تركيبة السوق القلقة ودائمة التغير”.
بتطبيق هذه الفكرة على المجال الاقتصادي، توصَّل العلماء إلى منطق بسيط يعد هو التطبيق العملي لفكرة التكيف، وهو الأكثر وضوحًا، ففي العمليات التي تقوم في سوق الأسهم واتخاذ المستثمرين قراراتهم بشأن شراء سهم أو بيعه تأتي عادةً بناءً على تاريخ السهم من حركة سواء الصعود أو الهبوط، وطبقًا لذلك التاريخ يتخذ المستثمر القرار، وباتخاذ مجموع القرارات يظهر انعدام توازن جديد ناتج عن الحركات المختلفة للمستثمرين الآخرين، ما يدفع الأسعار إلى تحرُّكات جديدة؛ منشئةً بذلك دورة لولبية للسبب والنتيجة تتواصل بلا توقُّف.
الفكرة من كتاب الذرَّة الاجتماعية: لماذا يزداد الأثرياء ثراءً والفقراء فقرًا
مع تصور حدوث ثورة في مجال العلوم الاجتماعية، يحاول المؤلف استشراف ظواهر بداياتها المختلفة. تلك الثورة التي ستتمكن حسب رؤيته من تغيير عميق لعملية المعرفة حيث سيصل العلماء إلى قوانين صارمة تحكم العالم البشري لا تتعارض مع حرية الإرادة الفردية لكنها ستحاول تفسير العمليات الاجتماعية، تمامًا كما يفسِّر علماء الفيزياء العمليات المختلفة التي تتم داخل الذرَّات.
مؤلف كتاب الذرَّة الاجتماعية: لماذا يزداد الأثرياء ثراءً والفقراء فقرًا
مارك بوكانان: عالم فيزيائي، ومحرِّر سابق بمجلة “Nature” الشهيرة في مجال العلوم، حصل في يونيو 2009 على جائزة لاغرانج في تورينو فيما يتعلق بالكتابة العلمية في مجال التعقيد، ألَّف العديد من الكتب والمقالات التي تستهدف بالأساس التعريف بأفكار الفيزياء الحديثة، وكذلك عمليات الربط والإسهامات المختلفة التي تقدمها الفيزياء للعلوم المختلفة ومنها الأحياء والعلوم الإنسانية، ومن كتبه: “معادلة التاريخ”، و”العالم المعقد، القانون البسيط”، و”الناس ذرات، العالم يتحرَّك بالقانون المادي”، و”التاريخ يتحرك بواسطة قانون القوة”، و”السوق يتحرك بالقانون المادي”.
معلومات عن المترجم:
أحمد علي بدوي: مترجم، وله عدد من الكتب التي ترجمها عن الفرنسية، ومنها:
“مختارات من شعر القرن السادس عشر الفرنسي”، و”رحلة في آخر الليل”، من تأليف لويس فردينان سلين، و”القلعة” من تأليف أنطون دو سانت إكزوبيري.