الإبداع والمرض النفسي
الإبداع والمرض النفسي
شاع إلصاق المرض العقلي بالعبقرية عند كثير من الفلاسفة والمفكرين في القرنين السابع عشر والثامن عشر؛ فجعل لامارتين العبقرية نوعًا من المرض، واتهم بيرتون الشعراء بالجنون، وقال لمبروزو في كتابه “العبقرية والجنون” إن العبقرية مرض ذُهاني، ويُعد فرويد من أوائل من روج لفكرة أن القلق والمرض النفسي يوجهان عمل المبدع، وأن الأمراض العُصابية والإبداع كلاهما ناشئ من الصراع مع المحفِّزات البيولوجية، وأن الشخص يتخذ الإبداع بديلًا عن إشباع غرائزه الأساسية! وربما ترجع جذور هذا الأمر إلى الاعتقاد اليوناني القائل إن الشاعر والفنان تحركهما قوة شيطانية، لكن الدراسات الحديثة تدحض هذا الرأي من خلال القياس السيكومتري للإبداع وبيان الصلة بين درجة الإبداع والاتزان النفسي، أو من خلال تتبع سير المبدعين والوقوف على ظروف التقلبات النفسية في حياتهم وعلاقتها بعملياتهم الإبداعية.
ويرى سيلفانو أريتي، المحلل النفسي، أن المبدع والفصامي يتشابهان في الهروب من الواقع، لكن الفرق أن المبدع يسعى للتغيير وجعل العالم أكثر جمالًا وأمنًا وليس أسيرًا للضلالات كمرضى الفصام، وأوضح في كتابه “الإبداع.. تلك التوليفة السحرية” أن ما يصيب المبدعين أحيانًا من اضطرابات مزاجية تمثل عائقًا لهم، في حين أن منتجاتهم الإبداعية تم معظمها خلال أطوار حياتهم الأصح نفسيًّا وجسديًّا، وتؤيد المقاييس الحديثة هذا الرأي؛ فقد وُجد أن المبدعين تسود فيهم روح التجديد والمرونة الذهنية مقابل ضيق الأفق والجمود في المرضى النفسيين بل والأشخاص العاديين، وعندما طُبق على بعض المبدعين مقياس “مينسوتا متعدد الأوجه” المُستعمَل في تشخيص حالات الاكتئاب والفصام وانحرافات الشخصية وغيرها جاءت النتائج سلبية.
وأجرى الطبيب النفسي الإنجليزي “بوست” دراسة على عينة كبيرة من سِير المشاهير في فروع إبداعية متنوعة لبحث الصلة بين الإبداع والمرض النفسي، فأسفرت نتائجُه عن أن القلق شاع أكثر في السياسيين، في حين بلغ الاكتئاب أعلى نسبة في أوساط الأدباء والفنانين، لكن على فترات قصيرة ومصاحب غالبًا للإدمان الكحولي، ونسبة الانتحار لم تزد على 107٪، أي أقل من متوسط نسبة الانتحار في الدول الأوروبية، إذًا فالاضطرابات النفسية شاعت في فئات محددة، وارتبطت بموضوعات تعبر عن الذاتية والمشاعر وتثير بطبيعتها الضغوط الانفعالية.
الفكرة من كتاب الحكمة الضائعة
ما زلنا نقرأ في سِيَر المشاهير من المبدعين والعباقرة في مختلف المجالات ما اعترض حياتهم من مس الجنون والأمراض النفسية والاضطرابات الوجدانية والسلوكية؛ فقد حكى العقاد معاناته النفسية التي مر بها خلال شبابه، وروى أنيس منصور محاولة انتحاره، وعانى الشاعر عبد الرحمن شكري الاضطرابات الوجدانية حتى رُمى بالجنون، وقضت مي زيادة حياتها الأخيرة في مشفى العصفورية للأمراض النفسية.
وخارج حدود الوطن العربي الأمر أوضح؛ فقد كان سلوك كلينتون تجسيدًا لمرض انفصام الشخصية، وضَرَب الاكتئاب والاضطراب النفسي عددًا من مشاهير الأدب والسياسة أمثال أبراهام لينكولن وتشرشل وثيودور روزلفت وكافكا وڤان جوخ، وختم نيتشه حياته بالجنون، كما أنهت فيرجينيا وولف حياتها بالانتحار.
فهل هناك صلة حقيقية بين الإبداع والمرض النفسي؟ أم أن الإبداع نفسه هو شكل من أشكال الجنون كما يزعم بعض أتباع المدرسة الفرويدية؟ أم ربما لكاتبنا رأي آخر يدحض كل هذا بناء على براهين علمية ودراسات مثبتة؟
مؤلف كتاب الحكمة الضائعة
د. عبد الستار إبراهيم: كاتب وأستاذ علم النفس الإكلينيكي ورئيس قسم الطب النفسي بكلية الطب بجامعة الملك فيصل، واستشاري الصحة النفسية بمستشفى الملك فهد، وعضو في جمعية الصحة العقلية التابعة لمنظمة الصحة الدولية وجمعية الصحة النفسية الأمريكية.
مُنح الكثير من الجوائز لإسهاماته العلمية الرفيعة، ونشر نحو مئة من الأبحاث والمقالات في مجلات علمية مختلفة، وللكاتب مؤلفات قيمة، أبرزها:
أسس علم النفس.
الإنسان وعلم النفس.
القلق قيود من الوهم.