الألوان بين العين واللسان
الألوان بين العين واللسان
ظن العلماء السابقون أن خلل مصطلحات الألوان في الثقافات القديمة يرجع إلى خلل في إدراك الألوان نفسها، وهذا ما نُفِيَ، لكن هل من الممكن أن يكون العكس هو الصحيح؟ هل من الممكن أن تكون اختلافات مسميات الألوان سبب الاختلافات في إدراكها؟
لم يكن من السهل تحديد مدى تأثير اللغة في إدراك الألوان، إذ يحدث إدراك الألوان في المخ، وهذا هو المجهول بعينه، في حين أن العلماء لم يملكوا العلم الكافي لعمل العقل أو مسيرة عملية إدراك الألوان، فقد كان بإمكانهم التحايل على ما يعلمونه بالفعل.
كل من نصفي المخ يعالج الإشارات البصرية الخاصة بالنصف المعاكس لمجال الرؤية، أي أن النصف الأيمن للدماغ هو المعني بمعالجة الإشارات البصرية الخاصة بالمجال البصري الأيسر، والنصف الأيسر مسؤول هو الآخر عن المجال البصري الأيمن، وفي النصف الأيسر نفسه تُعالج اللغة.
في ضوء هذه المعلومات صُمِّمَت تجربة بسيطة كان على المشاركين فيها أن يحددوا موقع المربع ذي اللون المختلف بين دائرة المربعات الملونة عن طريق الضغط إما على اليمين وإما على اليسار حسب مكان المربع، مع تركيز البصر طوال الوقت على الصليب الصغير الذي يتوسط الدائرة والشاشة.
كانت النتيجة متوقعة، فقد توقف زمن الإجابة بشكل عام على درجة اختلاف الألوان، أما الجانب المدهش من النتيجة فكان في اختلاف زمن الإجابات بين اليمين واليسار، فعندما كان المربع المختلف في الجانب الأيمن -وهو الجانب نفسه الذي يعالج اللغة- كان زمن الإجابة أقصر.
في دراسة أخرى أُجْرِيَتْ باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي للدماغ في أثناء تحديد المشاركين أسماء الألوان، تبين ظهور نشاط ملحوظ في المناطق المتصلة باللغة، ونستنتج من ذلك أن العقل يستعين بالدوائر اللغوية لتحديد تشابه أو اختلاف لونين، ويعني ذلك أن أسماء الألوان في اللغة الأم تتدخل بشكل مباشر في معالجة الألوان وإدراكها.
إن كانت اللغة لها مثل هذا التأثير في إدراك الألوان؟ فماذا عن باقي جوانب الفكر؟ هل يمكن للغة فعلًا أن تؤثر في نمط تفكير ناطقيها وأن تشكل رؤيتهم للعالم؟
الفكرة من كتاب عبر منظار اللغة: لم يبدو العالم مختلفًا بلغات أخرى؟ عبر منظار اللغة: لم يبدو العالم مختلفًا بلغات أخرى؟
لنقل أنك بعد تأملك في السماء الصافية وجهت سؤالًا واحدًا إلى ثلاثة أشخاص من جنسيات مختلفة، وكان السؤال هو “كيف تبدو السماء؟”، فجاءتك الإجابات كالتالي: “السماء جميلة وسوداء”، “السماء جميلٌ ولونه أزرق”، “السماء جميل/ة كالنحاس”.
إن كنت تقرأ هذه السطور بلسان عربي، فمن المؤكد أن تلك الإجابات تبدو غير عقلانية بالنسبة إليك، وبعيدة تمام البعد عن الواقع والحقيقة والمنطق، والأغلب أنك ستشكك في صدق المتحدثين أو سلامة قواهم العقلية.
ولربما ستشك في قواك العقلية إن علمت بالفعل بأن الثلاث جمل لا تشكو من خلل، وأنها منطقية وسليمة عقلانيًّا ولُغويًّا، وأن الفيصل الوحيد الذي يمكن الرجوع إليه هنا هو اللغة الأم لقائل كل جملة. إن الاختلافات البسيطة بين اللغات تبدو واضحة وضوح الشمس إن صِيغَت بهذه الطريقة، ولكن هل هي مجرد اختلافات لغوية؟ أم أنها تعبر عن اختلافات ثقافية ولغوية؟ وهل اللغة مجرد أداة، أم هي الصانع؟ ومن أين تأتي اللغة في الأساس؟ هل هي نتاج ثقافي، أم موروث طبيعي؟ هل تشكلنا اللغة أم نشكلها نحن؟
مؤلف كتاب عبر منظار اللغة: لم يبدو العالم مختلفًا بلغات أخرى؟ عبر منظار اللغة: لم يبدو العالم مختلفًا بلغات أخرى؟
غاي دويتشر :زميل باحث فخري بقسم اللغات واللغويات والثقافة في جامعة مانشستر، حصل على درجة الدكتوراه في اللسانيات من جامعة كامبريدج، وأجرى عديدًا من الأبحاث في اللسانيات التاريخية هناك، كما عَمِل أستاذًا في قسم اللغات والثقافات في الشرق الأدنى القديم بجامعة ليدن بهولندا.
من مؤلفاته:
كتاب “تجلي اللغة: جولة تطويرية عبر أعظم اختراع إنساني”.
معلومات عن المترجمة:
حنان عبد المحسن مظفّر
نائبة رئيس الجامعة لشؤون الطلبة في الجامعة الأمريكية بالكويت، وحاصلة على الدكتوراه في الأدب والنقد من جامعة إنديانا في بنسلفانيا، شغلت منصب أستاذ مساعد سابق في قسم اللغة الإنجليزية وقسم الدراسات العليا بجامعة الكويت، ولها عديد من الأبحاث المنشورة في النقد الأدبي والأدب الأمريكي، وفي الوقت الحالي هي عضوة في هيئة تحرير سلسلة «إبداعات عالمية» الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وقد ترجمت بعض الأعمال المهمة التابعة للسلسلة، ومن أمثلتها:
“ما بعد الإنسان” لروزي بريدوتي.
رواية “جمعية غيرنزي للأدب وفطيرة قشر البطاطا” لماري آن شيفر.