الأسرة على المحك
الأسرة على المحك
كانت الأسرة حتى وقت قريب تتعرض لهجوم واتهامات عنيفة، وكان الشباب المتطلع إلى الحرية يعدُّها مؤسسة للإخضاع يجب التمرد عليها، لكنَّ الأمر انقلب، فلم تعد الأسرة اليوم مؤسسة يُهدف إلى التخلص منها، وأصبح الكثيرون يصرحون بأنهم مستعدون للتضحية من أجلها، وفي هذا الإطار لا بد أن ندرك أن إعادة الاعتبار للأسرة ليس لها علاقة بإعادة إحياء الواجبات التقليدية التي تنص عليها الأخلاق الدينية، لأن تقديس الأسرة أُفرغ من الإلزامية القديمة لصالح الإنجاز الحميم وحقوق الشخص الحر، إذ أصبحت مؤسسة ما بعد تخليقية أُعيد تدويرها بمنطق الاستقلالية الفردانية، فقد قلبت وسائل بنوك الأمشاج والأجنة المجمدة والتلقيح الاصطناعي والتخصيب المخبري المفاهيم التقليدية للنسب والأبوة والأمومة، ولم يبق شيء من الأخلاق الأسرية التقليدية!
فالعصر ما بعد التخليقي مكّن المرأة من أن تُخصَّب بوالدٍ مجهول أو رجل ميت، وصارت المرأة التي تعطي البويضة والمرأة التي تحمل الجنين مختلفتين، ومع تقنيات التناسل الجديدة أصبح من الممكن إنجاب طفل دون أب، فصارت الأبوة والأمومة ممكنتين دون علاقة جنسية، وبناءً على ذلك نحن لا نرى عودة النظام الأسري بل تفككه، فما يميّز الإنجاب والزواج الآن هو الحق الفرداني في الحصول على طفل بأي وسيلة، وفوق ذلك صار يسمح للوالدين بمعرفة جنس الجنين واختياره عن طريق الإجهاض الانتقائي! فنحن نعيش الآن في عصر الأسرة الاستهلاكية والطفل على المقاس! ومن ثمَّ أصبحت الأسرة مؤسسة تتفوق فيها الحقوق الذاتية على الواجبات القطعية، ولم نعد نحترم الأسرة في حد ذاتها بل نحترم الأسرة من حيث هي أداة للتحقيق الذاتي للأشخاص، وقد ترتب على ذلك مأساة الطلاق، ونزع الإنسانية في التقنيات الجديدة للإنجاب، ومحو صورة الأب!
إلى جانب ذلك هناك خطر ديمغرافي وهو انخفاض معدلات الخصوبة، وهذا ليس راجعًا إلى توجه نحو الهبوط، فالحركية النيو-فردانية لا تعني رفض الأطفال من حيث هم، ولكن الطفل متى نريد وبالعدد الذي نريد! كما تعمل التربية من النوع (الليبرالي النفساني) على تقليص واجبات الأبناء تجاه الوالدين وتدميرها، فلم يعد يوجد معنى لفكرة طاعة الوالدين، ففي ظل مبدأ الحرية الفردية ومجتمع مبني على التعبير عن الشخصية الفردية وتأكيدها يفقد الوالدان الاحترام والتقدير ويتراجع مفهوم البرّ!
الفكرة من كتاب أفول الواجب.. الأخلاق غير المؤلمة للأزمنة الديمقراطية الجديدة
يُبين المؤلف أن الأخلاق مرّت بثلاث مراحل، هي: مرحلة الأخلاق التقليدية الدينية، ومرحلة أخلاق الواجب التي فصلت بين الأخلاق والدين، ومرحلة أخلاق ما بعد التخليقية التي نعيشها الآن، وهي أخلاق ليس فيها إثم أو ألم وخالية من الإلزام ولا يترتب عليها أي عقاب، ويوضح أثر أفول الأخلاق الدينية وأخلاق الواجب في الأسرة والجسد والعمل والصحة والبيئة وعالم الأعمال.
مؤلف كتاب أفول الواجب.. الأخلاق غير المؤلمة للأزمنة الديمقراطية الجديدة
جيل ليبوفتسكي : هو فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي، له عدد من الدراسات والبحوث في نقد الحداثة وما بعد الحداثة والعولمة والرأسمالية النيوليبرالية، وتفكيك بِنى المجتمعات الاستهلاكية، من مؤلفاته:
مملكة الموضة.
المرأة الثالثة.
الترف الخالد.
الشاشة العالمية.
عصر الفراغ.
معلومات عن المترجم:
البشير عصام المراكشي: هو كاتب مقالات فكرية ودراسات شرعية، مدون وباحث ومفكر مغربي، حاصل على شهادة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية، له العديد من المحاضرات والدروس العلمية، من مؤلفاته:
العلمنة من الداخل.
شرح منظومة الإيمان.
تكوين الملكة اللغوية.