الأخلاق المسيحية وهوية المجتمع الغربي المعاصر
الأخلاق المسيحية وهوية المجتمع الغربي المعاصر
كان من النتائج المترتبة على عصر التنوير في أوروبا ظهور الذهنية العلمية لتحل محل الإيمان المسيحي في ما يتعلق بالتقنية، كإحلال الطب الحديث محل العلاج الروحاني الإيماني، كما ظهرت الليبرالية بوصفها واحدة من أهم الأيديولوجيات الأخلاقية، وقد بحث الفلاسفة في العلاقة بين الهوية الأخلاقية للمجتمع الغربي المعاصر والمسيحية، فذهب بعضهم إلى أن فكرة الفرد التي تقع في صميم هوية المجتمع الغربي، وتقول إن لكل فرد القدرة على ممارسة إرادته الأخلاقية الخاصة، هي فكرة مستمدة من المساواة الراديكالية في المسيحية، وقد ترتب على هذه المساواة أن العلاقة بين الإنسان والإله هي علاقة شخصية، وليست علاقة جماعية أو قبلية،
ومن ثمَّ فإن الهجمات الليبرالية على المسيحية تتم باسم اللاهوت المسيحي الذي نسيته الكنيسة، وبناءً على ذلك فإن المسيحية وفّرت الأساس لما يُوصف حاليًّا بأنه قيم ليبرالية غربية، لأن كلًّا من التعددية الفردية والتسامح والمساواة هي نتاج ثقافة مسيحية أعادتها الليبرالية إلى الواجهة مرَّة أخرى، ومن ثمَّ فإن الأخلاق الليبرالية ليست إلا صورة مختلفة من المسيحية.
وتأكيدًا على أن الليبرالية هي صورة أخرى من المسيحية، لا بد أن نعرف أن فكرة الإيمان بأن الإنسانية في تقدم، وأن الإنسانية تتقدم في المعرفة العلمية، ومن ثمَّ تستطيع أن تُحكم سيطرتها على الطبيعة، ما هي إلا نسخة علمانية من فكرة الخلاص للجميع في المسيحية، فالإنسانية كانت تعتقد قبل “داروين” أنها مختلفة عن بقية الحيوانات الأخرى، لكن في عالم ما بعد داروين، تُعد فكرة التقدم فكرة خيالية، لأن بقاء البشر أصبح مرهونًا بالتطور وليس بالتقدم، ومن ثمَّ تحذو النزعة الإنسانية الحديثة حذو المسيحية في اعتقادها وإيمانها أن البشر مختلفون ومميزون، فما جعل الأخلاقَ أسلوب حياة متفوقة في ذلك على اللا أخلاق فكرةٌ أفرزها الدين، فالإنسان يفضِّل أن يكون خيرًا على أن يكون شريرًا، بينما ما يُعد طبيعيًّا في المملكة الحيوانية قد يعد غير أخلاقي بالنسبة إلى الإنسانية، وبناءً على ذلك فإن اللاهوت الديني المسيحي في ما يتعلق بالأخلاق منغمس بشكل عميق في المجتمع الغربي.
كما بيَّن “نيتشه” أن موت الإله يستلزم بالتبعية دمار الأخلاق والقيم الاجتماعية، ومن ثمَّ فإن الإيمان بالله باقٍ ما بقيت الأخلاق، وبناءً على ذلك يُعد المجتمع الغربي مجتمع أخلاق، إذ يدور النقاش والجدل حول ما يُشكل الحياة الطيبة، والحياة الطيبة لا مكان لها دون أخلاق، والأخلاق لا مكان لها دون وجود الإله حيًّا.
الفكرة من كتاب تاريخ موجز للعلمانية
يحاول الكاتب إثبات أن العلمانية لا تُمثل نهاية الدين وخصوصًا الدين المسيحي في الغرب، كما أنها لا تُعبِّر عن إلحاد الغرب، لأن العلمانية والأخلاق الليبرالية تعتمدان بشكل واضح على الإرث المسيحي، ومن ثمَّ فإنه يرى أن العلمانية هي صورة متطورة وحديثة من المسيحية، وأنها تعبر عن الأخلاق المسيحية منفصلة عن عقيدتها.
مؤلف كتاب تاريخ موجز للعلمانية
غرايم سميث : هو أستاذ لاهوت، وباحث في القضايا المتعلقة بدور الدين في المجتمع، كما أنه أحد المؤسسين لمجلة اللاهوت السياسي، ويعمل محررًا فخريًّا لها، من مؤلفاته:
Oxford 1937: The Universal Christian Council of Life and Work.
معلومات عن المترجم:
مصطفى منادي إدريسي: هو باحث مغربي، مهتم بقضايا العلمانية وتاريخها، حاصل على إجازة في الفلسفة عام 2006، كما حصل على شهادة من المدرسة العليا للأساتذة عام 2007، وترجم عدَّة مقالات ودراسات خاصة بالعلمانية والسياسة.