استدعاء الأخلاق وتجديدها
استدعاء الأخلاق وتجديدها
أصبحت جميع القضايا في هذا العصر تعالج في إطار المرجعية الأخلاقية، فإذا زادت شعبية اليمين المتطرِّف يتم تنشيط مبادئ حقوق الإنسان، وإذا كان العالم الثالث يرضخ تحت الفقر ويموت جوعًا فلننظم عروضًا إغاثية، وإذا كان كوكب الأرض يتعرض للخطر فلنجعل من الطبيعة إلهًا! يظهر من ذلك أن روح المسؤولية تعيد روح الثقافة ما بعد التخليقية، فهي الواجب المنزوع التضحية، ومن ثمَّ يُعد التجديد الأخلاقي محور العالم الفرداني الخالي من إلزام الواجب القطعي والتعبير عن الاحتجاج على انحرافاته المقلقة، فنحن في عصر سيادة الإطيقا، أي عصر الإلزام الافتراضي وأخلاق المصلحة.
تزدهر في العصر ما بعد التخليقي قيم جديدة متمركزة حول الطبيعة، في ما يُعرف بـ”أخلاق البيئة” التي أثمرت عن وجود وعي جماهيري بالخسائر التي يسببها التقدم، كثقب طبقة الأوزون والأمطار الحمضية والاحتباس الحراري، ومن ثمَّ يشهد هذا العصر انتصار القيم الإيكولوجية التي تفرض روح المسؤولية ومدها إلى الأشياء خارج الإنسان، فنشأت عن ذلك “أخلاق مستقبلية” لا تُعرِّض الإنسان للانقراض، فأصبحت الواجبات تجاه الطبيعة تسبق الواجبات تجاه الإنسان، وقد أدت العواطف المتطرفة العاشقة للحيوان والبيئة إلى تصعيد الدوامة ما بعد التخليقية لتخفيض قيمة الواجبات بين البشر، فالحق في ماء نقي، وهواء نظيف، وبيئة غير مشوهة يؤكد النزعة الفردانية التي تهدف إلى عيش حياة أفضل وأطول، ومن ثمَّ فهي تعيد تدوير المنطق الصناعي والاستهلاكي عن طريق إعادة توجيه العرض والطلب تجاه الصناعات العضوية والمنتجات الإيكولوجية، فهي أخلاق فردانية تحركها الحاجة إلى الأمن والصحة والرفاهية، ومن ثمَّ فهي أخلاق نفعية.
وإلى جانب الإيكولوجيا يبرز مجال الطب الإحيائي، فعاد السؤال (البيو-أخلاقي) المتعلق بقضية التجارب على الإنسان وما تشكله من تهديد للإنسانية، فالرعب من تحديد النسل وخلق جنين لأغراض البحث العلمي، وأشكال الاتّجار في الجسم البشري، تؤكد على الطابع المقدس للحياة، ومن ثمَّ اكتسبت الأخلاق توهجًا من جديد، إلا أنها أخلاق بالوكالة تضمن حماية الحقوق الفردية والتقدم العلمي، والأمن الفردي والجماعي، فلا يسمح بالتجارب إلا على المتطوعين البالغين، وتمنع ممارستها على الأطفال والقاصرين وكبار السن والمتخلفين عقليًّا، فهي أخلاق ذكية مناسبة لنمط الحياة الفرداني ما بعد التخليقي.
الفكرة من كتاب أفول الواجب.. الأخلاق غير المؤلمة للأزمنة الديمقراطية الجديدة
يُبين المؤلف أن الأخلاق مرّت بثلاث مراحل، هي: مرحلة الأخلاق التقليدية الدينية، ومرحلة أخلاق الواجب التي فصلت بين الأخلاق والدين، ومرحلة أخلاق ما بعد التخليقية التي نعيشها الآن، وهي أخلاق ليس فيها إثم أو ألم وخالية من الإلزام ولا يترتب عليها أي عقاب، ويوضح أثر أفول الأخلاق الدينية وأخلاق الواجب في الأسرة والجسد والعمل والصحة والبيئة وعالم الأعمال.
مؤلف كتاب أفول الواجب.. الأخلاق غير المؤلمة للأزمنة الديمقراطية الجديدة
جيل ليبوفتسكي : هو فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي، له عدد من الدراسات والبحوث في نقد الحداثة وما بعد الحداثة والعولمة والرأسمالية النيوليبرالية، وتفكيك بِنى المجتمعات الاستهلاكية، من مؤلفاته:
مملكة الموضة.
المرأة الثالثة.
الترف الخالد.
الشاشة العالمية.
عصر الفراغ.
معلومات عن المترجم:
البشير عصام المراكشي: هو كاتب مقالات فكرية ودراسات شرعية، مدون وباحث ومفكر مغربي، حاصل على شهادة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية، له العديد من المحاضرات والدروس العلمية، من مؤلفاته:
العلمنة من الداخل.
شرح منظومة الإيمان.
تكوين الملكة اللغوية.