اتحاد الأخلاق بالدين
اتحاد الأخلاق بالدين
لكي تتحد الأخلاق مع الدين، فلا بد من طلب أنموذج غير دهراني يقدر الإله حق قدره، ويُقر بالآمرية الإلهية التي هي أصل القواعد الأخلاقية ولا ينكرها، بالإضافة إلى وجوب مخالفته للتصورات الدهرانية لعلاقة الإنسان بالإله، وهذا الأنموذج -كما يرى طه عبد الرحمن- هو (الأنموذج الائتماني)، الذي يقوم على خمسة مبادئ؛ المبدأ الأول (مبدأ الشاهدية)، ومقتضاه أن الآمر الإلهي يراقب تنفيذ أوامره ونواهيه، إذ يشهد ظاهر الأعمال التي يأتيها المأمور كما يشهد باطنها، فإذا حكم عليها بالصلاح قبلها، وإذا حكم عليها بالفساد ردها، فالتخلُّق لا يحصل للإنسان إلا بتلك الشاهدية الإلهية، بفضل النظر والحكم الإلهي على الأعمال التي يأتيها الإنسان.
والمبدأ الثاني “مبدأ الآياتية”، ومقتضاه أن اتصال الدين بالعالم اتصال آيات لا اتصال ظواهر، فالعالم مجموعة من الآيات التكوينية، بينما الدين مجموعة من الآيات التكليفية، وهذا الاتصال باقٍ ببقاء الإنسان، لأن الإنسان يتميز بجمعه لنوعي الآيات التكليفية والتكوينية، فهو من جانب خِلْقته آية تكوينية كبرى، ومن جانب خُلُقه آية تكليفية عظمى، ولا حياة للإنسان دون هذا التعلق التكويني بالعالم والتكليفي بالدين.
والمبدأ الثالث “مبدأ الإيداعية” ومقتضاه أن الأشياء ودائع عند الإنسان، مؤتمن عليها ليقوم برعايتها، وبالتالي لا بد من نسبة الأشياء إلى الإله خالقها ومالكها، مقلعين عن التصور الدهراني الذي ينسب الأشياء للإنسان، فما يملك الإنسان إلا بواسطة الإله.
والمبدأ الرابع “مبدأ الفطرية”، ومقتضاه أن الأخلاق فطرية، مستمدَّة من الفطرة التي خُلِق عليها الإنسان، والمبثوثة فيه بطريق النفخة الروحية الإلهية، على أن يتحمَّل كل دين مسؤولية أخلاق زمانه.
والمبدأ الخامس “مبدأ الجمعية”، ومقتضاه أن الدين كله أخلاق، فإنسانية الإنسان لا تتحقَّق إلا بتخلُّقه، كما أنها تعمُّ جميع أفعاله؛ فإذا تحقَّقت تلك المبادئ الخمسة للأنموذج الائتماني، نكون قد ألبسنا الأخلاق لباسها الديني والروحي، الذي فقدته على أيدي الدهرانيين.
الفكرة من كتاب بؤس الدهرانية.. النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين
قامت الحداثة منذ نشأتها على “فصل المتصل”، ونصطلح على أن نسميه (الدنيانية)، ومن صورها، (العَلمانية) وهدفها فصل السياسة عن الدين، و(العِلموية) وهدفها فصل العِلم عن الدين، و(الدهرانية) وهدفها فصل الأخلاق عن الدين، وكذا فصلت الدنيانية الفن والقانون وكل شيء عن الدين، وهدف هذا الفصل (الدنياني) صرف الدين عن تنظيم مجالات الحياة، وأبلغ تلك الفصول أثرًا وأشدها خطرًا هو (فصل الأخلاق عن الدين)، لتعلُّق الأخلاق بالإيمان، فضلًا عن صلة الإيمان بالدين.
وقد وضع الدهرانيون أربع صيغ للفصل بين الأخلاق والدين، يريدون من خلالها أن يجرِّدوا الأخلاق من لباسها الروحي، حتى يلبسوها لباسًا زمنيًّا دنيانيًّا بلا روح؛ فدعوى فصل الأخلاق عن الدين، دعوى باطلة، حيث تبطل تصوُّرات الدهرانيين عن الأخلاق والدين، حيث لا أخلاق بلا دين، كما لا روحانيات من خارج الدين، ومن ثمَّ لا بد من وصل ما فصله الدهرانيون، حتى نعيد إلى الأخلاق لبسها الروحي من جديد.
مؤلف كتاب بؤس الدهرانية.. النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين
طه عبد الرحمن: كاتب متخصِّص في علم المنطق وفلسفة اللغة والأخلاق، أحد أبرز الفلاسفة والمفكرين منذ سبعينيات القرن الماضي، كتب العديد من الكتب التي يؤسِّس من خلالها فلسفة إسلامية جديدة، ومن تلك الكتب: “العمل الديني وتجديد العقل”، و”روح الحداثة”، و”سؤال الأخلاق”، و”سؤال العنف”، و”ثغور المرابطة”، و”ما بعد الدهرانية”.