أين ذهب الأسوياء في العالم؟

أين ذهب الأسوياء في العالم؟
تشير إحدى الدراسات إلى أنه ببلوغ سن الثانية والثلاثين، فإن 50% من السكان معرضون لاضطراب القلق، و40% معرضون لاضطراب المزاج، وأكثر من 30% سوف يعتمدون على الأدوية، وفي دراسة أخرى توجد إشارة إلى أنه بحلول سن الحادية والعشرين، فإن 80% من البالغين سيكونون معرضين لشكل من أشكال الاضطراب النفسي. إن هذه الدراسات المتضخمة لا تدعم إلا مطالب شركات الأدوية، ويؤكد ذلك احتلال الأدوية النفسية أفضل المبيعات لدى شركات الأدوية، فمضادات الاكتئاب تحقق ربحًا بمعدل 12 مليار دولار سنويًّا لهذه الشركات، وتأتي أدوية القلق في مرتبة متقدمة من بين جميع الأدوية النفسية بما تشكله من مبيعات مرتفعة، والسبب في ذلك أن أطباء الرعاية الأولية يفضلون وصفها، رغم أن ضررها يمكن أن يكون أكثر من نفعها!

لكن أكثر الأشياء غرابة هو انتشار أدوية الذُّهان بين الناس رغم آثارها الجانبية الخطيرة، إذ يتناولونها كالحلوى، والسبب في ذلك أطباء الرعاية الأولية الذين يصفون هذا الدواء لكل من هبّ ودبّ على الأرض، فيصفونها لمن يواجه صعوبة في النوم، ومن يعاني القلق، ومن يعاني الاكتئاب، وهذا الإفراط في تناول مضادات الذهان أمر جنوني، ولا يمكن أن نصفه إلا بأن التسويق انتصر على المنطق والممارسة الطبية السليمة، ولا عجب حينئذٍ عندما نعلم أن عدد الذين يترددون على غرف الطوارئ في المستشفيات ممن تناولوا جرعات زائدة من تلك الأدوية أكثر مِمَن يتناولون المخدرات!
إن التشخيص النفسي كان -وما زال- مسايرًا للموضة، ففي القرن الماضي كانت الموضة هي تشخيص الناس على أنهم مصابون بالوهن العصبي والهستيريا التحويلية واضطراب تعدد الشخصية، ثم اختفت هذه التشخيصات فجأة لتحل محلها مجموعة أخرى من التشخيصات الجديدة كالاكتئاب والقلق وفرط الحركة وتشتت الانتباه، لكن يوجد خبران، الأول مبشِّر وهو أن الموضة الحالية سوف تذبل وتتلاشى مع الوقت لتظهر مجموعة تشخيصات جديدة مختلفة، أما الخبر السيئ أنه في الماضي كانت تلك التشخيصات محلية، أما اليوم فهي عالمية عابرة للحدود والقارات، وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من بنية المجتمعات في العصر الحاضر!
وهنا يثور تساؤل “لماذا تنتشر بعض التشخيصات وتختفي، وتظهر غيرها وتختفي؟”، والإجابة تكمن في التغييرات التي تجرى في أثناء صياغة الدليل التشخيصي والإحصائي، فمجرد تغيير بعض الكلمات يؤدي إلى شيوع أمراض نفسية دون غيرها، فعلى سبيل المثال، انتشار مشكلات الانتباه وفرط النشاط ازداد بشكل كبير، والسبب ليس تغير الأطفال، بل التعديلات التي أجريت على DSM-4، والتي صنفت مشكلات السلوك والانتباه الطبيعية، التي هي جزء من حياتنا اليومية، على أنها دليل على اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه.
الفكرة من كتاب إنقاذًا للسواء.. ثورة مُطلع ضد تضخم التشخيصات النفسية DSM-5، شركات الأدوية الكبرى، وتحويل حياة السواء إلى حياة مرضية
يرى آلن فرانسيس أنه في الوقت الذي يشعر فيه مواطن في آسيا أو إفريقيا أن بلاده متأخرة في مجال فهم علل النفس البشرية والطب النفسي، يوجد مواطن آخر في الولايات المتحدة وأوربا يتلقى تشخيصًا كاذبًا، ويأخذ علاجًا دون الحاجة إليه بسبب ترويج أمراض زائفة، الهدف من ورائها تحقيق الربح لشركات الأدوية الكبرى، لذا يؤكد المؤلف أهمية وضع حد فاصل بين المرض والسواء للحفاظ على حياة الأشخاص الطبيعيين والأسوياء، فليس كل حزن يعد اكتئابًا، وليس كل طفل كثير الحركة يُشخص بأنه مصاب بفرط الحركة وتشتت الانتباه، ويحذر المبالغةَ في تشخيص السواء، فالمجتمعات ليست غالبيتها مريضة، بل العكس.
مؤلف كتاب إنقاذًا للسواء.. ثورة مُطلع ضد تضخم التشخيصات النفسية DSM-5، شركات الأدوية الكبرى، وتحويل حياة السواء إلى حياة مرضية
آلن فرانسيس: هو أستاذ فخري ورئيس سابق لقسم الطب النفسي والعلوم السلوكية في كلية الطب بجامعة ديوك، ترأس فريق عمل الدليل التشخيصي والإحصائي الرابع DSM4، وكان مساعدًا مع المجموعة الرئيسة للدليل التشخيصي والإحصائي الثالث DSM3، من مؤلفاته:
Differential Therapeutics
Your Mental Health
Essentials of Psychiatric Diagnosis
معلومات عن المترجم:
سارة اللُّحَيْدَان: مترجمة سعودية، من ترجماتها:
نضال من أجل الرحمة: بناء التعاطف داخل عالم ممزق.
الأسس الثقافية للتحليل النفسي السياسي.